حكاية جدتي
قصة قصيرة


عفيف الشيباني 2002

حين احضرتُ علبة الحلوى لجدتي ، كعادتها لم تخيب ظني ، فتحت العلبة ودسّت في يدي شيئاً منها .. تصنّعت التمنع لبرهة ..فأصرت هي وزادت الكمية ..
تقول أمي دائماً أن الله يرزقنا من حيث لا نتوقع ، وجدتي تعطيني الحلوى والنقود بدون أن اطلب منها !
صديقي ناصر يقول أنه يحسدني على جدتي فجدته لا تعطيه النقود إلا عندما تطلب منه الذهاب إلى الدكان أو شراء دواء للسعال ..
يقول أنه يتمنى ان تموت بسرعة ليتخلص منها فهي كبيرة جداً ولا تميز بين الماعز والبقرة على مسافة ثلاثة بيوت
أنا لا أحب الموت لأنه مخيف وإذا ماتت جدتي فمن سيعطيني الحلوى كل يومين أو ثلاثة ؟
مرة سألتها : ( هل ستموتين يا جدتي ؟)
ابتسمت بفم خال من الأسنان وأجابت : ( نعم يا ولدي ....كل حي لابد أن يموت )
وضمتني إلى صدرها بقوة عندما أخبرتها أني لا أريدها أن تموت

عندما أخبرت أمي قرصتني في أذني قرصة مؤلمة وحذرتني من أن أزعج جدتي بأسئلة كهذه ،،كانت القرصة مؤلمة حقاً وأظن أن أثرها باق حتى الآن لكني لم أستطع مشاهدته لأني لا أستطيع أن أرى أذني ،، حين طلبت من ناصر ان ينظر إليها ويصف لي شكل أثر القرصة قال لي أنه لا يوجد أي أثر وقبل أن يفلت أذني من يديه زعق فيها وابتعد وهو يضحك وأنا اسب وأشتم ولا أكاد اسمع نفسي من شدة الطنين الذي سببه زعيق ناصر، كل يوم نلعب معا ولكنني أنسى أن أرد له مزاحه السخيف بمثله ،،ناصر صديق متعب وأفكاره لا تخلو من غباء وأحيانا يصر على لعبة سخيفة فأضطر للعب معه لأني لا أريد أن أكون وحيداً فلا يوجد لي صديق غيره وأحيانا يسبب لي المشاكل عندما يصر على تكملة اللعبة رغم أن أذان المغرب قد ارتفع وعندما أعود إلى البيت أجد العصا بانتظاري فأتسلل في صمت وأختبئ خلف جدتي فأصبح في أمان وإن لم أفعل فستوجع العصا رجليّ وعندها تقول أمي أنني صرت صديقا للعصا لأني لا أسمع كلامها ...

بعدما أكلت الحلوى أردت الخروج من البيت فقد تناولت غدائي وسأكمل يومي باللعب ، في مثل هذا الوقت ـ بعد الظهر ـ نجلس أنا وناصر خلف البيت إلى أن تخف حرارة الشمس ثم ننطلق إلى أي مكان ، ناديت أمي: ( أمي سأخرج الآن...)
ردت : (لا ..لا تخرج الجو غائم ولن نبحث عنك تحت الأمطار .. اجلس بجوار جدتك واطلب منها أن تحكي لك حكاية)
.. فتحت باب البيت ونظرت إلى السماء كانت الغيوم كثيفة وسوداء ولعل المطر قريب وحكاية جدتي لم تكن بديل رائع للخروج ... استمتعت بصرير الباب وأنا أغلقه ، دخلت وتكومت في الغرفة بجوار جدتي التي كانت تمد رجليها في ارض الغرفة فأحاطتني بيدها بحنان ، همست : (احكِ لي حكاية يا جدتي )
ابتسمت وهزت رأسها في صمت دليل الموافقة وبدأت تحكي بصوت شاحب وجميل : (كان ياما كان في قديم الزمان ...)
كنت استمع إلى جدتي وانظر إلى النافذة .. كان المطر يشتد في الخارج ، كانت تحكي لي حكاية الذئب المطيع لأمه .. كنت اعرف تلك الحكاية ، لكني أحب أن اسمعها بصوت جدتي العميق وهي تقلد الحيوانات وتشير بيدين ذواتا تجاعيد حسب الأحداث ....ضمت أصابعها وهي تسعل بصوت تحاول ان تكتمه و قالت : ( احضر لي كوبا من الماء يا ولدي )
كنت سارحا انظر إلى الأمطار عبر النافذة ، فالتفتّ وكأنها أيقظتني : ( هه .. لماذا ؟)
لوحت بعصاها في مرح وهي تقول : ( لماذا ؟؟ لأشربه ! وهل سأغسل رأسك ؟ )
ابتسمت خجلا وخرجت وعدت احمل كوب الماء ..شربت منه قليلا ووضعت الكوب بجوارها ..أمامي مباشرة وتابعت هي الحكاية : ( كان الذئب قد وعد أمه ألا يبتعد عنها ...)

عدت انظر إلى النافذة .. نادتني أمي : ( احضر الكوب إذا كانت جدتك قد شربت الماء)
صحتُ : ( لا لم تكمله بعد ..) قالت جدتي : ( لقد شربت ما يكفي .. اذهب به إلى أمك قبل أن تسكبه على الأرض )
غمغمت ولم أرد ..وعادت جدتي إلى حكايتها : ( وعندما ذهب الذئب إلى الغابة ... )
كان المطر قد خفّ ولكن البرق لمع فجأة امام النافذة
قفزت : ( جدتي .. جدتي ..كيف يحدث البرق يا جدتي ؟)
ردت بعد صمت قصير
( البرق يا ولدي يرسله الله ليخاف الناس فيعبدوا الله و يؤدوا حقه )
قلت وأنا أمد رجلي أمامي : ( لكن البرق ...) لم أكمل جملتي فقد كانت رجلي قد اصطدمت بكوب الماء فسال الماء وبلل ثوب جدتي الأبيض فرفعت رجلها وابتعدت عنه وهي تنظر إليّ في عتاب ، أما أمي فكأنها وجدت فرصة لعقابي فقامت وشدت أذني وهي تقول : ( ألم اقل لك أن تعيده إلى المطبخ ؟)
صرخت وحاولت الاختباء خلف جدتي التي لو لم تكن موجودة لتمزقت أذني
لم تعد بي رغبة لسماع الحكاية ..

وقفت للحظة خلف جدتي ونظرت إلى النافذة .. كان المطر قد توقف تماما فقررت الخروج ، كنت لا أزال امسك أذني ، والغريب أنها نفس الأذن التي شدتها أمي في المرة السابقة ، وانطلقت اجري حتى وصلت الى الشجرة الكبيرة حيث كان ناصر بانتظاري ، جلست الهث بجواره ..كان الجو صافيا وجميلا فاستمتعنا باللعب لفترة ثم قال ناصر :
( مللت هذه الألعاب .. ما رأيك في لعبة جديدة .؟)
نظرت في عينيه وسألته : ( وما هي ؟ )
أجاب وهو يشير بيده إلى رأسي : ( أنت تشد أذنيّ وأنا أشد أذنيك ومن يصرخ أولاً يعتبر خاسراً ..)
تراجعت خطوة إلى الوراء وأنا أهز رأسي : ( لا ... لا ... لن ألعب هذه اللعبة .. العبها بمفردك ..)
نظر إليّ مستغرباً لكني لم انتظر جوابه وأسرعت اجري إلى البيت وهو يناديني وأنا لا أجيب وعندما وصلت إلى أمام البيت تحسست أذني وفتحت الباب ، دخلت وجلست بجوار جدتي وهمست : ( جدتي ... أكملي لي الحكاية ..)



p;hdm []jd - rwm rwdvm p;hdm rwm