أهلا وسهلا بك إلى منتديات يل.
النتائج 1 إلى 3 من 3
جميع المعجبين4معجبين
  • 2 Post By
  • 1 Post By
  • 1 Post By

الموضوع: الفلسفة الأوروبية بين الإلحاد والإيمان

  1. #1
    مشرف عام
    تاريخ التسجيل
    May 2012
    الدولة
    يقيم حاليا في صنعاء
    المشاركات
    332
    معدل تقييم المستوى
    48


    الفلسفة الأوروبية بين الإلحاد والإيمان


    إنّ الحديثَ عن الفلسفةِ يقتضي الحديثَ عن الجانبِ الروحيِّ في الفكرِ الإنساني ، وعن رؤية الإنسان ومفهومه لسرّ الحياة .. وفلسفة البشرية ليست محدودةً بما أنتجه الفكر الإنساني من أجل الفلسفة ، إنما تتعدّى ذلك إلى مختلف رؤى البشر ، وعلومهم ، وعقائدهم حول مصير الإنسان وإدراكه ووجوده ..
    ولذلك من الطبيعي أن تتأثّر الفلسفة بالعلوم الأخرى ، سواءٌ العلومُ الكونيةُ أم العلومُ الدينية ، وتؤثّرُ بهذه العلوم ، فَتُوجِّه الفكرَ الإنسانيَّ في غاياتِ بحثه في مادّة الكون ، وفي غايات إدراكه لدلالات النصوص الدينية ..
    وسنقف عند بعض محطّات الفلسفة الأوروبية ، ناظرين إليها من منظار العقل والفطرة المجردة عن أي قالب فكري مسبق الصنع ، لنضعها في ميزان الإيمان والإلحاد ، حسب ما نمتلك من براهين عقلية ، ومن ثوابت إيمانية نستطيع البرهنة عليها ..
    لا شك أن الإيمان بوجود الله تعالى والكفر به ، مسألةٌ تتعلّق أولاً بفلسفة الوجود ، ولكنّ فلسفة الوجود ذاتها ثمرةٌ لفلسفة المعرفة.. ولذلك لا يمكن للفيلسوف أن يُعطي حُكماً في تصوّره عن الوجود وخالقه ، دون أن تكون له فلسفتُه المعرفية الخاصّة به ، والتي يجعلها مقدمةً لتصوره عن الوجود وخالقه ..
    والإيمان الذي نزن به هذه الفلسفة ، ليس إيمانَ الشعائر والطقوس الخاصّة بدينٍ من الأديان ، إنما اليقين بوجود خالقٍ لهذا الكون له الصفات العظيمة من الكمال ، والتي تحيط بكلّ شيءٍ من مخلوقاته ..
    وسنتعرّض لبعض الفلاسفة الأوروبيين ممّن يمثّلون – حسب ما أرى - أهمّ المفاصل الفلسفية لمسألة الإيمان والإلحاد ، وفق اختيارٍ نستطيع من خلاله إعطاءَ صورةٍ عن أهمّ الرؤى الفلسفية الأوروبية تجاه هذه المسألة ..
    ديـفيد هـيوم : عاش في الفترة ( 1711- 1776 ) م ..
    يعدُّ هيوم من دعاة المذهب الشكوكي ، لأن الإنسان – حسب فلسفته – عاجزٌ عن المعرفة الحقيقية ، حيث اعتبر المعرفة تتعلق بالإنسان الذي اعتبره حقيقة الكون المركزية ..
    مذهب هيوم في فلسفة المعرفة هو المذهب الحسّي الذي يعتبر الحسّ أصل المعرفة ، فلا يعني بكلمة الإدراك إلا الإدراك الحسّي ، ولذلك رفض الخبرة الروحية ، وقال بعدم تجاوز الخبرة الحسّيّة فهو ينكر أيّ شيءٍ باستثناء الصور الحسية ، وكلّ فكرة عنده هي استيهام حسّي ، وبالتالي لا تُوجد عنده معرفة عقلية ، أي أنّ العقل المجرد – عنده – غيرُ موجود ..
    لقد رفض هيوم العلل الفاعلة والعلل الغائية ، واكتفى فقط بالعلل الصورية ، ودعا بأن لا نبحث عن سبب الحوادث خارجاً عن المظاهر .. فهو يقول بوجود نوع واحد من العلل هو العلة الطبيعية ..
    يقول :
    ( إن معنى الموجود الضروري ثمرة وهم المخيّلة التي تمدّ موضوع تجاربنا إلى غير نهاية ، فَلِمَ لا نمدّ المادة نفسها إلى غير نهاية فنعتبرها الله ؟ .. وبأي حقٍّ نفترض الكون كلاً محدوداً حتى نبحث له عن علة مفارقة .. )
    لقد أنكر هيوم علاقة العلة بالمعلول ، واعتبرها علاقة وهمية ، سببها – حسب ما يذهب – أنّنا نرى ظاهرتين ، أحدهما تعقب الأخرى ، فنظن أن الثانية مسبَّبة عن الأولى .. وإنه ليس هناك ضرورة عقلية تربط بين الظاهرتين ، وتوجب أن تكون الأولى علّة للثانية ، ولكن اعتيادنا على رؤية تتابع الحادثتين هو الذي أوهمنا أن الحادثة الأولى علة للثانية ..
    يقول هيوم :
    ( إننا لا نعلم عن العلّة شيئاً سوى أنها الحادثة السابقة ، التي نشاهدها قبل حدوث معلولها ، فلا بدّ لنا من مشاهدة الحادثتين السابقة واللاحقة ، فوجود الكون لا يقوم دليلاً على وجود صانعه ، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعاً )
    وهكذا نرى أن فلسفة هيوم المعرفية التي تنكر الأفكار الفطرية ، والتي تعتبر ضروب المعرفة تتكوّن – فقط – من الإحساس والتجربة ، ساقته لكي ينكر نفسه ، وعقله ، والعالم من حوله ..
    يقول هيوم :
    ( إذا كنّا نعتقد بوجود الشيء الذي نحسّ به ، فهذا الاعتقاد إنما يكون في اللحظة التي تنقل لنا بها حواسّنا أثرَ ذلك الشيء ، وتشعرنا بوجوده ، ولكن ليس من دليلٍ يحتّمُ علينا الاعتقاد بأن الشيء الذي رأيناه اليوم ، ثم تركناه ، وعدنا لنراه في اليوم التالي ، هو نفس الشيء الذي رأيناه في اليوم الأول ، وكل ما في الأمر أننا رأينا شيئين فتوهمنا أنهما شيء واحد ، وإذن فنحن لا نعلم عن العالم الخارجي إلا ما في أذهاننا من مدركات حسية ( آنية ) ، فكلّ ما في الكون هو هذه الأفكار التي ندركها ، وليس في الكون سواها ، وجوهر الأشياء سواء كان مادياً أو روحياً لا وجود له .. )
    ويقول أيضاً :
    ( طالما أنّ معارفنا لا منشأ لها سوى الآثار الحسية ، ونحن لا نجد في المحسوسات شيئاً يسمى عقلاً ، أو ذاتاً ، فإذاً لا وُجود للعقل ، ولا للذات التي ندّعي وجودها ، وكلّ ما أفهمه من قولي إن ذاتي موجودة وعقلي موجود ، هو أنه توجد في داخلي سلسلة احساسات وأفكار متتابعة ، فأسمّي هذه المجموعة ذاتاً عاقلة ، فكلمة الذات والعقل أوهام بأوهام ) ..
    وهنا نسأل السؤال التالي : هل فلسفة هيوم المعرفية مقدّمة لفلسفته في الوجود ؟ أم أنّ فلسفته في الوجود مقدّمة لفلسفته المعرفية ؟ !! ..
    جـون لـوك :

    أنكر لوك في بادئ الأمر الأفكار الفطريّة ، معتبراً أنّ الأفكار كلّها تأتينا من التجارب الحسّيّة ، واعتبر أنّ ما نحسبه أفكاراً فطرية هو بديهيات ، ما يكاد ينظر العقل إليها حتى ندركها ، واستدلّ على ذلك بأنه لو نظرنا إلى الأطفال لرأينا أنهم لا يعرفون هذه الأمور البديهية ، وفي هذا دليل – عند لوك – أنّ العقل الإنساني خُلق خالياً من كلِّ فكرة ، وبدأ مع التجارب الحسية بتكوين معارفه .. وهذه التجارب تكون خارجية بالإحساس ، ثم تكون باطنية بالتفكير والتأمل ..
    وبعد ذلك عاد لوك وفرض ما سمّاه بالأفكار التمثيلية ، التي هي في الحقيقة ليست إلاّ الأفكار الفطرية ..
    يقول لوك :
    ( إن في عقولنا نماذج لحقائق الأشياء ، وهذه النماذج هي التي تُقاس عليها الفكرة ، فيُعرف خطؤها من صوابها ، وبقدر ما يكون التطابق واضحاً بين فكرتنا عن الشيء ، وبين النموذج القائم في عقولنا عن هذا الشيء ، تكون معرفتنا أقرب إلى الصحة ) ..
    فالمعرفة العقلية – عند لوك – ليست سابقةً على التجربة ، وهي مكتسبة وليست فطرية ، فالإحساس عنده هو الطريق الوحيد للمعرفة .. وقبول لوك ببعض المبادئ النظرية كالبديهيّات والمعرفة الحدسية ، هو قبولٌ باعتبارها ليست سابقةً على التجربة ، بالمعنى الأفلاطوني أو الديكارتي ..
    فالفكرة ترجع إلى التجربة ، والتجربة تعتمد على الملاحظة ، والملاحظة تنقسم إلى قسمين :
    1- ملاحظة خارجية موضوعية مصدرها الحس الظاهر .
    2- ملاحظة داخلية ذاتية مصدرها الحدس الداخلي .
    وبما أن لوك صاحب موقف تجريبي حسّي ، كان من الممكن أن يرفض فكرة الجوهر ، ولكن لوك لم يرفض فكرة الجوهر ، واعتبرها أساسية لا يمكن إنكارها ، فهو يقول عن فكرة الجوهر : ( إنها شيءٌ ما لا أعرف عنه شيئاً ) ..
    إن فكرة الجوهر ليست صادرة عن الحسّ أو التفكير ، وليست مشتقّةً من الأفكار البسيطة المعطاة من الحس والتفكير ، ومع ذلك لم ينكر لوك هذه الفكرة بل اعتبرها ضرورية ، ومن هنا نرى أن فكرته عن الجوهر تتناقض مع ماهيّة مذهبه الحسّي التجريبي .. وهذا ما جعل لوك أقلّ تطرّفاً من غيره في مسألة المعرفة الحسّيّة ..
    ويقسم لوك الجواهر إلى قسمين :
    1- جواهر مادية وهي الأجسام .
    2- جواهر روحية وهي على نوعين :
    أ – جواهر روحية متناهية وهي النفوس ..
    ب – جوهر روحي لا متناه وهو الله تعالى ..
    وهكذا نرى أن لوك أشار إلى الجواهر ذاتها التي أشار إليها ديكارت من قبل وهي : الله ، والنفس ، والأجسام ..
    إذن فلسفة الوجود عند لوك ليست متطرّفةً مادياً كما هو الحال في فلسفة الوجود عند هيوم ، بينما فلسفة المعرفة عنده تحمل وجهاً من التطرف المادي ، ولكنها تبقى أقل تطرفاً من فلسفة المعرفة عند هيوم ..
    ديـكـارت : وُلد عام ( 1596 ) م ، وقد جنّد نفسه للدفاع عن الدين بطريق العقل ..
    تتشعّب قوى الإدراك عند ديكارت إلى : العقل – المخيّلة – الحواس – الذاكرة .. والذي يُدرك الحقيقة هو العقل وحده ، بمساعدة القوى الثلاث الأخرى ..
    وفي فلسفة المعرفة عند ديكارت يصل العقل إلى البداهة عن طريق الحدس والاستنباط .. فالحدس – عنده – هو عمل عقليّ يُدرك به الذهن حقيقةً من الحقائق ، يفهمها بتمامها في زمنٍ واحدٍ ، وبالتالي اعتبره نوراً طبيعياً وغريزةً عقليةً ..أمّا الاستنباط فيقتضي حركة من حركات الذهن ، والانتقال من شيءٍ إلى آخر ، ولذلك لا يتمّ في زمنٍ واحدِ.. والاستنباط – عند ديكارت – هو ارتباطٌ بين الحقائق ، في حين أن الاستنباط عند أرسطو هو ارتباط بين التصوّرات ..
    لقد رفض ديكارت المدرسة الأرسطية حول وجود الله تعالى ، التي تستمدّ يقين الله تعالى من يقين الأشياء الحسّيّة ، حيث يتمّ الانتقال من المعلول إلى العلّة .. وسبب رفضه هو أنّ منهجه في الشكّ المنهجي ، الذي يقول برفض أي يقين في الأشياء الحسية وحتى الرياضية ، هذا الشك يمنع العقل من الانتقال من المعلوم ( العالم ) إلى العلة ( الله ) ..
    ورفض المدرسة الأفلاطونية التي تنطلق من الحدس نحو المبدأ الأول ( الله ) حيث أنّه علةٌ ، إلى الأشياء الأخرى حيث أنها معلولة لتلك العلّة .. وسبب رفضه لهذه المدرسة أنها تعتبر الأشياء المحدثة مشاركة في الذات الإلهية ، فهي تعتبر ذوات الأشياء ليست مخلوقة ، إنما تُوجد بالمشاركة في الذات الإلهية ، أي أنها تعتبر أنّ الله تعالى ليس خالقاً للأشياء وإنما خالقاً لوجود هذه الأشياء .. بينما يعتبر ديكارت أنّ علاقة الأشياء بالله تعالى هي علاقة مخلوق بالخالق وليست علاقة مشاركة ..
    ففلسفة ديكارت تقتضي استحالة استنباط صور الوجود والمعرفة من مصدرها الأول ، لأن الله تعالى ليس نموذجاً للأشياء .. إنما هو ضامنٌ لعقلنا ، ويقينُ وجوده سبحانه وتعالى مبدأ أيّ يقين آخر ..
    لقد أثبت ديكارت يقيناً – على طريق الشك المنهجي – وجودَ ذاته ، من حيث هو جوهرٌ مفكّرٌ ، وهذه المقدمة انطلق منها لإثبات وجود الله تعالى ، بعد ذلك انتقل إلى العالم ..
    إنَّ منهجَ الشكّ عند ديكارت ليس من أجل الشكّ ، إنما لإعطاء الفكر أولوية على الواقع ، وللتوصل إلى معرفة يقينية ، فهو يعتبر الفكر المبدأ الأول للفلسفة ، وأنّ وجوده قبل كلِّ وجود ..
    يعتبر ديكارت أن فكرة الله تعالى من الأفكار الفطرية الأوليّة الحقيقية البسيطة ، التي تُدرَك بوضوح ، والمحتوية على كلِّ معاني الكمال ، وبالتالي هي فكرة موجود كامل لا متناهٍ .. وهذه الفكرة لا تأتي من العقل ولا من الأشياء الحسية ، لأنّ كليهما ناقصٌ ، إنما تأتي من علّة خارجية هي فوق العقل والأشياء ، أي من الموجود الكامل وغير المتناهِ ، وهو الله تعالى ..
    وهكذا برهن ديكارت على وجود الله تعالى كما يلي :
    1- في داخلنا فكرة عن موجود غير متناهٍ .
    2- يستحيل أن تكون هذه الفكرة دون علة .
    3- هذه العلة تتضمن على الأقل ما تتضمنه الفكرة والمعلول من الموجودات الموضوعية .
    4- هذا يؤدي إلى وجود موجود غير متناهٍ هو الله تعالى .
    ففلسفة ديكارت حول وجود الله تعالى تنتج النتيجتين التاليتين :
    1- الله تعالى قوّة مطلقة ، فرض ذواتنا في الوجود بفعل إرادي محض ..
    2- بسبب انعدام فكرة المشاركة بين الله تعالى والمخلوقات ، لا يمكن إدراك الله تعالى عقليّاً ..
    يقول ديكارت :
    ( أنا موجود ، فمن أوجدني ؟ .. إنني لم أخلق نفسي .. فلا بدّ لي من خالق ، وهذا الخالق لا بدّ أن يكون واجب الوجود ، وغير مفتقرٍ إلى من يُوجده ، أو يحفظ له وجوده ، ولا بدّ أن يكون متصفاً بكل صفات الكمال ، وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء ) ..
    ويقول أيضاً :
    ( إن من صفات الكمال المتوجبة عقلاً لله صفة الصدق ، وحاشا أن يكون سبحانه قد وهب لنا عقولاً مضللة خادعة ، فلا بدّ لنا إذن أن نثق بأن هذه العقول التي فطرنا الله تعالى عليها ، هي عقول صادقة وصالحة لإدراك الحق ، وكلّ ما تدركه هذه العقول إدراكاً واضحاً جلياً ( كالأوليات البديهية ) ، هو حقٌّ لا ريب فيه .. وعقولنا التي قرّرنا أنها صادقة وتدرك الحقائق الأولية ، هي التي تدلّنا على وجود الله ، وصفات كماله ، وعلى أنه خالق العالم ومدبّر أمره ) ..
    وباسـكـال : من الذين أقرّوا بالأفكار الفطرية المركوزة في ذواتنا غير المادّيّة ..
    يقول باسكال :
    ( إنّ الحواسّ تخدع ، والعقل يخطئ ، ولكن بالقلب وحده نعرف الحقَّ .. فبالقلب نعرف المبادئ الأولى ، ومعنى الزمان والمكان والحركة .. والعقل إنما يُؤسّس إدراكاته على هذه المعارف ، التي هي قضايا أوليّة ، لو أردنا البرهان عليها لوجب أن نفرض وجود قضايا أخرى سابقة ، ولو قلنا بذلك لذهب بنا إلى التسلسل ، ولما أمكن الوصول إلى قضايا أوّليّة ، فبالقلب ندرك هذه الحقائق ، وبالقلب ندرك وجود الله تعالى ) ..
    ولايـبـنـز : ميّز بين العقل والجسد ، واعتبر لكلٍ منهما نظامه الخاصّ به ، ولكنّهما يسيران بتوافق وتناسق موطّد سابقاً ، بحيث يستحيل أن يتخلّف أحدهما في عمله عن الآخر ..
    يقول لايبنز :
    ( إنّه لا يمكن أبداً أن نُفسّر المعرفة حينما نسندها إلى التجربة وحدها ، فالتجربة ليست كلّ شيءٍ في المعرفة كما زعم لوك ، ولكن تُوجد فينا حقائق ضرورية كليّة ، أسمى من التجربة ، ولكن تكشفها التجربة ، أي أنّ هذه الحقائق الأوّليّة الضروريّة موجودة في عقولنا بالفطرة وبالقوّة ، ولكن لا نستطيع اكتشافها إلا بواسطة التجربة ، فلولا التجربة لم تنكشف لنا ، ولكن التجربة ليست هي التي تكوّنها ) ..
    ويقول أيضاً :
    ( ليس في العقل شيء لا يأتينا من الحواس إلا أن يكون العقل نفسه ) ..
    عمـانـوئـيـل كانط : ولد سنة ( 1724 ) م ..
    كان كانط في البدء من العقلانيين ، حيث تأثّر بديكارت ولايبنز ونيوتن ، ولكن بعد اطّلاعه على فلسفة هيوم وتأثّره بها ، كوّن مذهباً يجمع بين المدرسة العقلانية والمدرسة التجريبية ..
    وفي فلسفة كانط فإنّ المعرفة البشريّة تنتج باتحاد الحدس الذي لا يمكن أن يكون – كما يقول كانط – إلاّ حسيّاً ، مع الإدراك الاستدلالي المنطقي الذي هو قوّة عقليّة محضة مجرّدة عن الحسّ ، ويستحيل على هاتين القوّتين أن تتبادلا وظيفتيهما ، فقوّة الحدس لا تستطيع أن تفكّر ، وقوّة الإدراك الاستدلالي لا تستطيع أن ترى ..
    إذن الإنسان – بنظر كانط – لا يملك حدساً عقليّاً ، وبالتالي فإنّ كانط من دُعاة المذهب التصوّري ، الذي يفترض أنّ التصوّرات الكليّة تركيبات من صنع الذات ، ولا مقابل لها خارج الذات من حيث هي كذلك .. وهكذا فالمعرفة – عنده – ليست تمثّلاً لواقع سابق الوجود ، وليست تطابقاً للفكر مع الواقع ، إنما هي خلق لهذا الواقع ..
    إن مصادر المعرفة – عند كانط – هي الحسّ والعقل ، وللعقل – عنده – أفكارٌ فطريّةٌ مركوزة فيه سمّاها ( قوانين العقل المنظِّمة ) ، وهذه الأفكار الفطريّة هي التي ندرك بواسطتها العلاقات القائمة بين الآثار الحسّيّة التي ترد إلينا ، سواء ترتيبها المكاني ، أم الزماني ، أم تسبّب بعضها عن بعض ، وبالتالي يُكوّن العقل بواسطة قوانينه المنظِّمة إدراكاً حسّيّاً ، ثم يكوّن منها مدركات عقلية كلّيّة ، ويُصدِر أحكاماً إنشائيّة جديدة لا يعتمد فيها على الحواس ..
    وخيرُ دليلٍ على القوانين الفطرية للعقل هو فكرة الزمان وفكرة المكان ، فهما فكرتان لا يستمدّهما العقل من طريق الإحساس ، وليستا موجودتين أصلاً في الأشياء حتى نحسّ بهما ، ولولا هاتان الفكرتان الفطريتان المركوزتان في العقل لما تمكّن العقل من إدراك شيء ، ومن استخراج العلاقات العقلية القائمة بين الأشياء ، ومن إصدار أيِّ حكمٍ إنشائي .. وفي الوقت ذاته قال كانط إنّ قدرة العقل على الإدراك العقلي الخالص ، هي ضمن نطاق الإدراك الحسّي الذي يُشكِّل الموادَّ التي منها ينطلق العقل إلى أحكامه العقلية الإنشائية ..
    يقول كانط قولاً أشبه ما يكون من قول الغزالي .. يقول :
    ( إنّ العقل إذا حاول أن يحكم هل العالم محدود أو لا نهائي ، من حيث المكان وقع في تناقضٍ وإشكال ، لأننا من جهة نتصور وراء كلِّ حدٍ شيئاً أبعد منه ومن جهة يتعذر علينا أن نتصوّر اللانهاية بذاتها ، وكذلك لو حاول العقل ، أن يتصوّر أنّ العالم له بدء في الزمان ، وقع في الصعوبة نفسها ، لأنّنا نعجز عن تصوّر الأزلية التي ليس لها بداية ، كما نعجز عن تصوّر لحظة نسميها بدء الزمن ، لأنّه لا يسعنا إلا أن نخال أنّه قد كان قبل تلك اللحظة شيء .. وكذلك حالنا في تصوّر العقل لسلسلة العلّة والمعلول ، لأنّنا من جهة لا نستطيع أن نتصوّر سلسلة لا نهاية لها ، ومن جهة ثانية ، تكلُّ عقولنا عن تصوّر علّة أولى لا علّة لها ، وهذه كلها مشاكل لا يمكننا التخلص منها إلا إذا أدركنا أنّ فكرتي الزمان والمكان ، وقانون السببية ، وكل قوانيننا العقلية المنظِّمة ، إنما ينحصر عملها ضمن نطاق الإدراك الحسي ، أي ضمن نطاق الظواهر التي يدركها الحسّ ، فإذا حاولنا أن ندرك بها ما وراء الحس ، وقعنا في الكلال والإشكال ) ..
    وقد اختار كانط الدليل الأخلاقي الوجداني على وجود الله تعالى ، فاستدلّ بهذا القانون على حرّيّة الإرادة ، واستدل بحرية الإرادة على خلود النفس وعلى يوم الدين ، واستدل بيوم الدين على الله تعالى ..
    يقول كانط :
    ( إنّ قانوننا الأخلاقي يستلزم أن نكون أحراراً في اختيارنا للخير والشر ، ونحن نرى في هذا العالم أنّه من النادر أن يُكافأ فاعل الخير على عمله ، بل نرى أنّ فعل الخير كثيراً ما يكون مجلبةً للشقاء والبلاء ، فلا بدّ إذن أن تكون لنا حياة أخرى ننال بها جزاء ما فعلناه من الخير ، وهذه الحياة الأخرى تُوجب أن تكون النفوس خالدة لتنال جزاءها ، ولا مجال لإنكار خلود النفس لأنّه يؤدّي إلى إنكار القانون الأخلاقي الذي قلنا إنّه حقيقة لا ريب فيها ) ..
    ومن هذه المقدّمة ينطلق كانط لإثبات وجود الله تعالى .. فيقول :
    ( ما دام ثبت أنّ النفوس خالدة ، وأنّ العدالة في المثوبة والعقوبة واجبة ، فلا بدّ أن نؤمن بوجود حَكَم عدل قادر خالد يتولى إقرار هذه العدالة في اليوم الآخر ، لأنّ الخلود والجزاء اللذين حكمنا بتوجبهما يستلزمان فرض وجود علّة كافية مكافئة لهما ، فلا بدّ أنّ من أنشأ الخلود خالد ، ولا بدّ أنّ من يقضي بالعدل عادل ، ومن يجازي على الخير والشر قادر ، وهذا الحكم العدل هو الله تعالى ) ..
    بـرغسـون :

    يُعدُّ برغسون من أجرأ فلاسفة القرن العشرين على إنكار المذهب المادي ، ومن أصدقهم في ذلك .. وقد اعتمد في إيمانه بوجود الله تعالى على مبدأين :
    1- النظر إلى الوجود وحركته ككلٍّ مترابط الأجزاء ..فدعا برغسون إلى عدم اعتبار الصور الحسية التي تصلنا عن طريق حواسنا أجزاءً من الحقيقة ، كونها أجزاءً من كلّ هذا الكون ، فاعتبر أنّ إدراك الأجزاء مقطعةً شيءٌ ، وإدراكها في حركتها وتواصلها وترابطها شيءٌ آخر ، ومثل ذلك كمثل الشريط السينمائي في الصور المتحركة ، وكمثل المنحني والمستقيم اللذين يتألّف كلاهما من النقاط ذاتها ، ولكن الربط بين النقاط ، واتجاه حركتها ، هو ما يجعلنا نميز المنحني عن المستقيم ..
    2- النظر إلى دلائل القصد والتصميم في خلق هذا الكون ، لنرى استحالة تكوينه بطريق المصادفة كما يزعم الماديون ..
    يقول برغسون :
    ( إذا سلّمنا جدلاً بأن هذه المصادفة السحرية العجيبة جائزة الوقوع في تكوين حاسّة أبصار واحدة في جميع الحيوانات ، وسهلنا على أنفسنا سبيل القناعة لقولنا إن الحيوانات ترجع ، على كل حال ، إلى نوع واحد ، فماذا نقول في النبات ، وهو نوع آخر ، يسير في طريق مختلف كلّ الاختلاف عن الحيوان ، إذا نحن رأيناهما متفقين في طريقة واحدة من طرق الحياة .. ؟ إننا نرى أنّ النبات والحيوان يتّبعان طريقاً واحدةً في التناسل ، فكيف اتّفق أن اخترع الحيوان الذكورة والأنوثة ، وَوُفق النباتُ إلى الطريقة نفسها ، وبالمصادفة نفسها ) ..
    وقد ميّز برغسون بين المادة والعقل فهو يقول :
    ( ليس العقل هو الدماغ المادي الذي تحويه الجمجمة بل العقل شيءٌ والدماغ شيءٌ آخر ، العقل قوة والدماغ مادة ، وإذا كنّا نرى أنّ الإدراك العقلي يعتمد على الدماغ ويتأثّر بسلامته وقوّته ومرضه وضعفه ، فما ذلك إلاّ لأنّ الدماغ وعاءُ للعقل ، سندٌ له ، وآلةٌ يسري في مجاريها ، فإذا تعطّلت الآلة ، اختلّ سير القوّة واضطرب ، كالماء يجري في الساقية ويخضع في سيره لتعاريجها ، ولكن خضوعه هذا لا يعني أنّ الماء هو المجرى ، والمجرى هو الماء ) ..
    ونظر برغسون نظرةً مشابهة لنظرة ابن رشد في البرهان على وجود الله تعالى ، ففي حين أخذ ابن رشد بدليل النظام والعناية والاختراع ، أخذ برغسون بدليل القصد والتصميم والحكمة والنظام ، عبر ربط حياة الكون وتكاملها في جميع أجزاء هذا الكون من الذرّة إلى المجرّة ، في نظام واحد ، وهدف واحد ، يدلّ على خالق واحد مدبّر قيّوم على هذا الكون ..
    وهكذا نرى أنّ الدليل الأخلاقي عند كانط ، يظهر بصورة الإدراك المباشر عند برغسون ..
    بعد هذا العرض لأهم مفاصل طرق الرؤى الفلسفية الأوروبيّة ، نستطيع أن نميّز بين الجانب الإلحادي والجانب الإيماني في الفلسفة الأوروبيّة ، بل في الفلسفة العالمية ككل ، بالنظر إلى الفلسفة من منظار النقاط التالية :
    1 - نرى أنّ فلسفة المعرفة التي تُنكر الأفكار الفطرية المركوزة في الذات الإنسانية ، والتي تنكر العقل كجوهر معنوي مجرّد عن المادة وصورها الحسّيّة ، والتي تنكر النفس الإنسانية كجوهرٍ معنويٍّ .. هذه الفلسفة هي مقدّمة باتجاه الشكّ والإلحاد ، وفي فلسفة ديفيد هيوم أكبرُ دليلٍ على ذلك ..
    بينما فلسفة المعرفة التي تقرّ بوجود هذه الأفكار الفطرية ، وبالعقل المجرّد ، وبالنفس الإنسانية كجوهرٍ فوق المادّة .. هذه الفلسفة هي مقدّمة باتجاه الإيمان واليقين .. وفي فلسفة ديكارت أكبرُ دليلٍ على ذلك ..
    2 - فلسفة المعرفة التي لا تعتمد إلاّ على الحسّ ، والتي تقود إلى الشكّ ، لأنّ العالم الحسّي عالمٌ متغير غير ثابت .. هذه الفلسفة هي مقدمة إلحادية من حيث كونها لا تنظر إلى الكون ككلٍّ مترابط يسير بهدف واحد وقصد واحد .. بينما فلسفة المعرفة التي لا تنكر العقل المجرد والفطرة الروحية في النفس الإنسانية ، هي مقدمة إيمانية من حيث كونها تنظر إلى الكون على أنّه جسدٌ واحدٌ خلفه علّة واحدة ، يسير بهدف واحد وقصد واحد .. وفي فلسفة برغسون أكبرُ دليلٍ على ذلك ..
    3 - الفلسفات الإلحادية يجمعها اعتقادٌ مذهبه سرمديّة المادّة مكاناً وزماناً ، وأنّ الحركة الأولى التي بدأ بها الكون حياته هي من ذات المادة ، أي إنكار العلّة الخارجة عن جسم الكون ، أي اعتبار العلّة هي ذاتها المعلول .. هذا الاعتقاد هو مقدّمة ونتيجة في الوقت ذاته لهذه الفلسفة ..
    بينما الفلسفات الإيمانية لم تجحد العلّة التي تقف وراء المعلول ، ولم تجحد وجود المحرّك الذي أعطى ويعطي الكون حيثيات وجوده ، ولم تجحد الحقائق العلمية التي أثبتت حدود الكون زماناً ومكاناً ..
    4 - الفلسفات الإلحادية يجمعها اعتقادٌ مذهبه أنّ المصادفة العمياء هي وراء هذا الكون العجيب ، مع علم أصحابها أنّ المصادفة التي تنتج كوناً متّزناً كهذا الكون هي - رياضياً – مسألة مستحيلة ، وفي الوقت ذاته يرفض أصحاب هذه الفلسفة أيّ برهان عقلي يربط هذا الكون المعلول بعلّة تقف وراءه ، بحجّة أنّ حواسّهم لم ترَ هذه العلّة ، وكأنّ مصادفتهم العمياء المستحيلة رياضياً هي واقعٌ حسّيٌّ يرونه بأعينهم علّةً لهذا الكون ..
    5 - الفلسفات الإيمانية في نظرها إلى خلق مادة هذا الكون تنقسم إلى قسمين :
    1ً - فلسفة اعتبرت المادّة أزلية على الرغم من كونها مخلوقةً لله تعالى ، ومعظم الفلاسفة المؤمنين بخالق لهذا الكون ذهبوا هذا المذهب .. لأنهم لم يستطيعوا تصوّر الخلق من العدم ..
    2ً - فلسفة اعتبرت المادّة ليست أزليّة ، وإنما حادثة ، وأنّ بداية الزمن هي ذاتها بداية وجود مادة العالم ، أي أنّه قبل خلق مادة العالم لم يكن هناك زمنٌ أصلاً ، ولا مكان .. وقد أبدع الغزالي في هذه الفلسفة ، وأتى أينشتاين ليؤكد هذه الحقيقة رياضيّاً وفيزيائياً في نظريته ( النسبية ) .. فوفق هذه الفلسفة المؤَيَّدة علمياً ، لا يُوجد خارج إطار المادة مكان ولا زمان .. والزمان والمكان لا سلطان لهما إلا في مملكة المادة ..
    وهكذا نرى أن الفلسفة الأوروبية ، بل العالمية ، بدأت تسلكُ سبلَ الحقيقةِ المبرهنةِ علمياً ، وهي أنّ مادة الكون حادثة بعد أن لم تكن موجودة ، وأنّ مسألة القدم والأزل لا معنى لها إلاّ في عالم المادة ، وأنّ هذه المادة هي في حقيقتها طاقة تحتاج في كلِّ لحظة إلى من يُدوِّرها لتبقى موجودة في عالمها المادي المكاني الزماني ، وأن الله تعالى لو سحب القدرة التي تعطي هذه المادة حيثيات وجودها لزالت المادة من الوجود .. وفي الآية الكريمة التالية وصفٌ إلهيٌّ مطلقٌ لهذه الحقيقة المثبتة علماً ومنطقاً ..
    ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ) [ فاطر:41 35/ 41] ..



    المــهندس عـدنان الرفــاعيكاتـب ومـفـكِّــر إســـلامي

    سورية – درعــا – تلشهاب
    هاتف منزل : 252300 15 00963
    هاتف جوّال : 252300 955 00963

    www.thekr.net
    Email : adnan@ thekr.net


    المصدر: منتديات يل - من قسم: نافذة مفاهيم


    hgtgstm hgH,v,fdm fdk hgYgph] ,hgYdlhk hgtgstm hgYgph] fdk

    عبد الصمد يوسف and كشكول معجب بهذا.
    الكلمة مسؤولية ..

  2. #2
    المدير العام
    تاريخ التسجيل
    May 2012
    الدولة
    اليمن
    المشاركات
    684
    معدل تقييم المستوى
    83
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    كشكول معجب بهذا.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    مدرس متميز
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    المشاركات
    13
    معدل تقييم المستوى
    0
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    عبد الصمد يوسف معجب بهذا.

 

 

المواضيع المتشابهه

  1. الفلسفة
    بواسطة مبخوت الوصابي في المنتدى نافذة مفاهيم
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-17-2012, 10:35 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
توسيع/تقليص
[click to hide]

Content goes here.