أرى الأدب من المجتمع كالزهرة من الشجرة لا هو صورة له ولا منفصل عنه، وكلاهما له دوره في حياة الآخر.. بصورة أكثر وضوحاً كان الأدب لأن المجتمع كان الرحم الذي تشكل فيه؛ أما لماذا فلأنه يسبق الواقع إلى ما هو منشود، فيقدمه على هيئة أشكال فنية تجسد طموحاتنا وتدفع بنا نحوها.. والقارئ في ضوء هذا الفهم للأدب عليه أن يتعامل مع عالم لغوي له خواصه التي تضفي عليه إهاب الاستقلالية الذي لا يعني القطيعة أو الانغلاق والحياة منعزلا كل الانعزال عن سواه من العوالم حتى النصية الواقفة منه على خط أفقي أو رأسي، ناهيك عن العوالم الأخرى، كما أنه ليس مرآة تعكس ذلك الواقع آليا أو وعاء أيديولوجيا صرفا، أو وثيقة نفسية تشف عن عقد صاحبه وأمراضه النفسية، أو مرجعا تاريخيا نستقي منه الوقائع والأحداث. إن النص أبعد عن كونه أيا من هذه كلها، إلا أنه ثمرتها، فهي منه بمثابة الجذور والجذوع والأغصان والأوراق من الزهرة .. النص مادة تم امتصاصها، وأعيد إنتاجها بنيةً لغويةً تنتمي إلى أصولها، وتملك خواصها التي تميزها بصورة لا يمكن تكون إلا نفسها..
في ضوء هذا الوعي بالنص الأدبي تأتي هذه الإطلالة القرائية على قصيدة " شرفة المجد"، للشاعرة الكبيرة " نادية إسماعيل " ؛ وهي شاعرة معاصرة من مكة المكرمة، غنية عن التعريف، والنص كافٍ للتعريف بها.
وللقارئ حتى يَلِجَ أعماق النص أن يقف على مدارات اللغة؛ صوتيا، صرفيا، تركيبيا، دلاليا. كما له أن يتأمل في البنية الإيقاعية، داخلية كانت أم خارجية. ولكن ليس ذلك الوقوف المنغلق بنيويا، بل ذلك الوقوف بغية استنطاق دلالته ورؤيته، وتجليات شعريته على مستوى اللغة والتشكيل، فالنص تشكيل للعالم باللغة، إلا أن الأبعاد الاجتماعية والأيديولوجية لا بد أن تتجلَّى وتتجسَّد على المستويات اللغوية والدلالية للبنية النصية.
نص "شرفة المجد" على المستوى الصوتي أفصح عن ذات تملك ثقة كبيرة بقدراتها، مَثَّلَ ذلك : حرف ( الجيم/ القاف/ القاف)، وهي حروف مجهورة وانفجارية، تشي عن جرأةٍ في القول وثقةٍ في التعبير، تتراسل دلاليا مع فكرة النص الكلية " الهجاء" ، الذي وجهته من خلال النص لشاعر لا يعني القراءة هنا معرفته أو الإشارة إليه.
هذه الفخامة التي ظهرت بها الذات المتكلمة في النص، عزَّزَها على المستوى الدلالي الاتكاء على تاريخ العائلة المنتسبة إليها والأرض التي نشأت على تربتها" مكة المكرمة"، هذا الاعتزاز بالجذور لم يكن غائبا على المستوى المعجمي للنص، بل جاءت تلك الألفاظ الضاربة في العراقة والقدم حاملةً جينات ذلك الاعتزاز والجزالة وفخامة المقام، على شاكلة هذه الألفاظ: ( أعلاج / الخنساء/ ديباج / شـتّـانَ / أخــــداجِ / الـــــرِقِّ / الــعـــاجِ / أخــمـــاجِ / الـــغِـــرُّ / كرباج / ...).
ومقارنة بالجانب الصرفي كان التركيب منسجماً مع توجُّه البناء النصي نحو تجسيد الذات المتماسكة المفعمة بالثقة الضاربة جذورها في أعماق التأريخ السامقة حتى قمم الرُقي والحداثة، والمتأمل في هذا البيت:
سَـتـهــلــكُ الـــوغـــد صــيــحـــاتٌ مــزلــزلـــةٌ
ويـشـهـدُ الـبــؤسَ مـــنْ صـنـعـي و إخـراجــي

يجد في التقابل بين (صيحات مزلزلةٍ) و ( صنعي وإخراجي)، ذلك الامتداد بين ماض عريق؛ كان الصراع فيه قائما على القوة والمواجهة، والصوت المزلزل سلاحا يفتك بالخصم، وحاضر تغيرت فيه الحروب نحو الإعلام وقوة الكلمة، رامزة لذلك بمصطلح سينمائي وهو الإنتاج الذي تشي عنه لفظة الصنع، والإخراج الذي ورد بلفظه.. والانزياح أو العدول الذي يمنح النص شعرية كاسرة للمألوف أن يأتي استحضار الماضي في سياق تركيبي مستقبلي ( ستهلك الوغد صيحات مزلزلة ). فالبنية التركيبية: (س"حرف تسويف للمستقبل"+ فعل مضارع + مفعول به مقدم+ فاعل موصوف ). لها دلالتها فالتقديم والتأخير متراسل تركيبيا مع التقديم والتأخير دلاليا، وهذا يشي عن حسن اختيار وجودة سبك.
قد يكون هناك من يقول في النص قولا آخر، كأن يلاحظ اللغة الكلاسيكية أو كما يحلو للبعض أن يسميها، أو يقول في التركيب صعوبة، وفي الإيقاع جزالة، تؤخذ على النص، ولا تحسب له، إلا أن ذلك وغيره مما قد يؤخذ على النص عائد إلى زاوية الرؤية التي من خلالها قرأ النص.. فإذا تجاوز ذلك الفهم النصي؛ أي وصف البنية النصية وتحليلها، إلى تفسيرها لا شك أنه سيعدل عن ذلك الرأي في النص، فكون النص هجاء- وهذا أمر لا يلتفت إليه البنيويون- يقتضي مثل هذا الأسلوب وهذه اللغة الموحية بجزالتها عن قوة وعراقة تمنح الذات وقاية تسقط على أسوارها الصلبة هجمات الآخر.
وجانب آخر يعود لطبيعة الذات المتكلمة ، فبما أنها أنثى جاءت اللغة برغم جزالتها - كما أسلفنا – حاملة روح الأنثى المفعمة بالأنوثة، ولك أن تتأمل في هذه المفردات والتراكيب: (عِــطـــرَ بـسـمـلــةٍ فـــاحَــــتْ/ غُـصــنى/ عائـلـتـي / بـسـاتـيــن/ تـخـتـالُ/ فـجـرَ الـصـبـاّ قـمــرآ / أشــــرق الـصـبــحُ / حـالــمــةً / ظِـــــلالِ /الـشـمــسَ سـاهـيــةٌ/ ... ).
أكتفي بهذا الإطلالة السريعة على نصٍ لا يمكن أن يستنطق جمالياته ورؤيته هذه الإطلالة السريعة.. إلا أن لي قولا أختم به، وهو تساؤل عن وظيفة النقد، ما هي؟ هل الإجابة عن كيفية التشكيل النصي فحسب؟ هل معرفة لماذا تشكل؟ أو ماذا يريد أن يقول؟ لا أظنها إلا الإجابة عن كل ذلك؟ وإلا ستكون وظيفة قاصرة ومبتورة، ولا خير فيها..
شكرا لشرفة المجد فقد سمحت لي بأن أطل من خلالها على عالم نصي له شعريته المحلقة، وفرادته المتألقة.. وشكرا لمن نسجت عوالمه وشكلتها بالكلمات لوحة بديعة نقف أمامها بإجلال وإكبار..



rvhxm td avtm hgl[] hgl]p avtm rvhxm