أهلا وسهلا بك إلى منتديات يل.
النتائج 1 إلى 4 من 4
جميع المعجبين7معجبين
  • 3 Post By
  • 2 Post By
  • 1 Post By
  • 1 Post By kate

الموضوع: شعر البار بين أحكام الدّارسين ومنطوق الكلام

  1. #1
    مشرف عام
    تاريخ التسجيل
    May 2012
    الدولة
    يقيم حاليا في صنعاء
    المشاركات
    332
    معدل تقييم المستوى
    48


    شعر البار بين أحكام الدّارسين ومنطوق الكلام

    شعر البار بين أحكام الدّارسين ومنطوق الكلام
    كتبه: د. عبد الله حسين محمّد البار
    أستاذ مشارك قسم اللغة العربيّة وآدابها
    كلّيّة الآداب ــ جامعة صنعاء
    شعر البار[1] بين أحكام الدارسين ومنطوق الكلام

    (1)
    تصنيف الشعراء في دوائر ومربّعات ومثلّثات ثمّ الحكم عليهم عمليّتان نقديّتان درج عليها النقد القديم واستمرأها مستسهلاً إيّاها, وألفها قرّاؤه فرأوها لباب النقد وجوهر القراءة الأدبيّة للنص.ومضى النقّاد ودارسو الشعر يقلّبون الشعراء في أرحام (المقولات) وأصلاب (الأحكام), فهذا كلاسيكيّ ـ ويبدل بها بعضهم مصطلح إحيائيّ أو اتّباعيّ ـ, وهذا رومانسيّ ـ ويبدل بها بعضهم مصطلح وجدانيّ أو ابتداعيّ ـ, وهذا واقعيّ, وذلك غير هذه وتلك من الصفات التي يتقسّم بها الشعراء في دوائر ذلك النقد ومربّعاته ومثلّثاته.وإذا بنا أمام طبقاتٍ كالتي عرفها علماء النقد في العربيّة من قديم الزمان.
    ولقد استبدّ هوى تلك التصنيفاتِ وحبُّها بأفئدة أولئك النقّاد ودارسي الشعر حتّى تراهم يصنّفون الشاعر في دوائر كثيرةٍ ويضعونه في مربّعاتٍ مختلفات, فهو تارةً كلاسيكيٌّ, وأخرى رومانسيٌّ, وثالثةٌ واقعيٌّ ...على ما بينها من تناقضٍ وتغايرٍ على مستوى الإنشاء وعلى مستوى الوصف. أمّا تناقضها على مستوى الإنشاء فيشمل مفهوم الشعر, ومستوى الرؤية والموقف وطرائق التشكيل اللغويّ. وأمّا تغايرها على مستوى الوصف فيشمل الأبعاد المعرفيّة والإجراءات النقديّة وما إلى ذلك. لكنّهم لم ينشغلوا بهذا الأمر ولم يتأمّلوه, فمضوا يصنّفون الشعراء في مدارس واتجاهاتٍ أدبيّةٍ, ويلقون الأحكام ذات اليمين وذات الشمال متكئين على مقولاتٍ جاهزةٍ مسبّقاً. وكان من نتائج ذلك أنْ بدا النقد مطيّةً ذلولاً يستطيع ركوبها كلّ ذي قدرةٍ على القول.يستوي في ذلك من درس الأدب واللغة واستكنه أسرارهما, ومن أوغل في علوم الفلسفة والنفس والاجتماع. وللإجمال هنا تفصيلٌ يضيق عنه المقام.
    حالة النقد كما جلتها تلك الصورة المجملة عدت عليها الأيّام, وغيّرها تطوّر طرائق الدرس اللغويّ عامّةً وما تركته على إجراءات الدرس الأدبيّ من آثارٍ غدا بها النقدُ صعباً وطويلاً سلّمُه, فلا يرتقيه إلاّ الذي يعلم من أسرار مناهجه ـ وما أكثرًها ـ ما يسعفه على التحليل, ويمكّنه من قراءة النص قراءةً معمّقةً مدركة.ومن هنا أصبح للنقد الأدبيّ سبيلان مفترقان, سبيلٌ يفضي بسالكه إلى الوقوف عند سطح النص وظاهره, وقراءته من برّانيّته من خلال أحكامٍ معدّةٍ سلفاً, ومقولاتٍ جاهزةٍ من قبل.
    وفي هذه الحالة يغيب (النص) إلاّ قليلاً, ويحضر (النّاصّ) إلاّ قليلاً, ويغدو الشاعر محور القول إليه يساق الحديث, وعنه يدور الكلام . فهو الكلاسيكيّ لا شعره, وهو الرومانسيّ لا ما ينتجه من كلام. يقابلُ هذا السبيلَ سبيلٌ يوغل إلى أعماق النص, ويعمد إلى قراءته من جوّانيّته من خلال عناصره المكوّنه مفردةً وتركيباً وإيقاعاً وصورةً ورؤيةً للعالم, وهنا يحضر (النصّ) إلاّ قليلاً, ويغيب (النّاصّ) إلاّ قليلاً, ويتأبّى (الشعر)على أنْ يكون وثيقةً يتوكّد بها الحكم, لأنّ الغاية من درسه هي استكناه كيفيّة تشكّل الدلالة فيه ولا غير. وهنا يعلو (النصُّ) على كلِّ تصنيف, ويتمرّد ضدّ كلّ حكمٍ, وتغدو لغتُه (الرائدَ الذي لا يَكْذِبُ أهلَهُ ) بحقّ, وبها يتجاوز الدارس كلّ مقولات النقد القديم وطرائقه في تحليل النصّ, متّخذاً من معطيات (علم اللغة ) وسيلةً لقراءة النصّ والكشف عن طرائقه في تشكيل الدلالة وإنتاجها. وتتغيّا القراءة تأويل شعريّة النصّ وجلاء هويّته الإبداعيّة.
    وإنّ من الممكن للدارس الذي يتوّسل بهذه المناهج الحديثة التي تنطلق من معطيات اللغة وكيفيّات تشكّلها في النص أنْ يقرأ بها (معنى) النصّ, وتبيان موضعه في تاريخ الشعريّة (القوميّة) على مستوى العموم, أو (المحلّيّة) على مستوى الخصوص. والمقصود (بالمعنى) في هذا الاستخدام إدراج العمل الأدبيّ في نسق أعلى هو المحيط الأدبيّ عامّةً, ومايكوّنه من أعمالٍ أدبيّةٍ مشابهةٍ, ينسرب معها العمل الأدبيّ الجديد في علاقاتٍ معقّدةٍ متنوّعة, ومن خلال تلك العلاقات يتحدّد معناه ويبرز مفهومه الجماليّ الخاصّ[2]. ويندرج في هذا مراجعة أقاويل النقّد في هذا النص أو ذاك, وتقليب أحكامه في ضوء طرائق تلك المناهج في تحليل النصّ. وبهذا تصبح للمنهج قدرة على قراءة المتن الشعريّ ـ ديواناً كان أم قصيدةً ـ على محورين:
    أحدهما رأسيّ يتتبّع النظرات الأشتات والأحكام المتفرّقة ليلمّها في خيطٍ واحدٍ بُغْيةَ تبيان مدى اتساقها مع مكوّنات المتن الشعريّ أو نبوّها عنه.
    وثانيهما أفقيّ ينحصر جهده في تأمّل لغة النص وتأوّل شعريّته, وجلاء هويّته الإبداعيّة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
    وأمّا الباعث على هذا الجمع بين هذين المحورين, على تناقضهما, في هذا المقام وأشباهه فهو تكاثر الأقاويل النقديّة في شعرائنا, وازدياد الحرص على تصنيفهم والحكم عليهم ما أمكنت الطاقة من ذلك, فتاه النصّ هويّةً إبداعيّةً, وخبت ظواهر شعريّته في كتابات الدارسين, ولاحقت الأحكام مبدعيه دون تقديرٍ لشأنه أو اعتبارٍ لمقامه العليّ. والشواهد على ذلك كثيرة ودالّة, ولكنْ حسبك منها في هذا المقام ما خطّته أقلام أساتذةٍ أجلاّء من أحكامٍ على شعر الشاعر {حسين بن محّمد البار}ـ 1918م/ 1965م ـ من خلال ديوانه الأوّل الموسوم بــ(من أغاني الوادي ).
    ولهذا الاختيار بواعثه, منها مرور خمسين عاماً على طباعته ونشره للمرّة الأولى والأخيرة, فمذ طُبِعَ في مصر عام 1954م لم يحظَ بطبعةٍ ثانيةٍ تمكّنه من الانتشار على مدى واسعٍ ورحب على الرغم من جهودٍ مضنيةٍ بُذِلت في سبيل ذلك لكنّها لم تظفر بما تمنّت, وجرت الرياح بسفنها على غير ما اشتهت وأمّلت. وهذا باعثٌ يمنح الدارس فرصةً سانحةً لقراءة متن الديوان من حيث هو بنية تكوّنها جملةٌ من العناصر تتضامّ أجزاؤها بعلاقاتٍ متنوّعة.
    وثمّة باعثٌ آخر هو أنّ الديوان ـ على شحّة نسخه في الأسواق ـ قد وجد سبيله إلى أيدي القرّاء, وظفر بعنايةِ دارسين حكموا عليه أحكاماً شتّى أوجب عرضها على متنه الشعريّ في ضوء مناهج الدرس الأدبيّ الحديث على إعادة قراءته لتبيان (معناه) و(تأويل) شعريّته, وجلاء طرائقه في تشكيل (الكلام).
    وأرجو أنْ لا يظنّنّ ظانٌّ أنّ الغاية من عرض تلك الآراء هنا هي السعي إلى إثبات صوابها من خطأها أو العكس, فما في الأدب والنقد من خطأٍ وصواب, لكنّ فيهما جدلاً بين عمقٍ وسطحٍ, فإمّا غوصٌ إلى أغوار النص أو اكتفاءٌ باستلهام الظاهر المترقرق على سطحه, ولاغير.ومن هنا ندرك دلالة أنْ تكون لزاوية النظر وظيفة في تحديد صفة القراءة والوعي بسماتها. وغدت غاية هذه القراءة ـ لذلك ـ الكشف عن (معنى) الديوان في النسق الأدبيّ الشامل, و(تأويل) شعريّته من خلال منطوق الكلام.
    (2)
    قرأ الديوانَ فرقاءُ من الدارسين أشتاتٌ في الثقافة والرؤية والشخصيّة, وجاءت قراءتهم إيّاه صدى كلّ ذلك مجتمعا. وإنّ منهم من لم يزد في نظرته إلى قصائد الديوان على أنّها (مقولاتٌ كليّة) تشتمل على ما عُرِفَ في تاريخ النقد العربيّ القديم بالأغراض الشعريّة, ولقد أرجعها الأستاذ سعيد عوض باوزير (إلى خمسة أغراضٍ شعريّة هي النسيب والطبيعة والاجتماع والرثاء والمديح )[3].
    وهذا مفهومٌ للشعر يتقاصر عمّا ذهب إليه شعراء الوجدان من جماعة الديوان حتّى شعراء أبوللو مروراً بشعراء المهجر, الذين رأوا الشعر تجارب تتنوّع فيها المواقف مؤتلقةً منسجمة, فتتأبّى القصيدة على أنْ تكون متحفاً يعجّ بالمتناقض من تلك الأغراض والموضوعات. فهل أَخْذُ الأستاذ باوزير بهذه الوجهة النقديّة ـ أيّاً كان الرأيُ فيها والموقفُ منها ـ نابعٌ من تصوّرٍ نقديّ ارتآه ؟ أو هو ناتجٌ عن موقفٍ من (المتن الشعريّ) حين رآه أدخل في (التقليد) فاستخدم لقراءته منهجاً يلائمه ويتسق معه؟
    الحقّ أنّك لا تُخْطِئُ في حديث الأستاذ باوزير نفحةً من عبير نظريّة (التعبير) كما قال بها شعراء الوجدان, يدلّك عليها سعيه إلى ربط منطوق الكلام بشخصيّة قائله, وهو ما يوضحه وصفه شعر البار بقوله: "الوضوح والصراحة والاندفاع هي المزايا الغالبة في أهمّ قصائد الديوان . والذي يعرف شاعرنا في حياته الخاصّة يدرك أنّ هذه المزايا الثلاث هي الخطوط العريضة الرئيسيّة البارزة لرسم شخصيّة الرجل, وما سواها فظلالٌ وألوان"[4].
    وتلك طريقةٌ في قراءة الشعر صرفت القارئ / الناقد عن التأمّل في لغة الكلام المنطوق تلقاء الذات الشاعرة, ولم يزد احتفاؤها بالشعر عن كونه "وثيقة" يتوكّد بها الحكم والاستنتاج ولاغير. ومن هنا انكفأت القراءة إلى النقد القديم تستلهم بعض إجراءاته في جلاء شعريّة النص. لكنّ انحصارها في إطار (المعاني المطروقة) ـ وهو من بقايا حديث الأوائل عن ( السرقات) وصور (الأخْذ) في الشعر ـ قد باعد بين القراءة وعمليّة استكناه شعريّة النص والكشف عن خصائص الأسلوب فيه.
    تتراسل مع هذه القراءة قراءةُ الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف عن (شعر البار), وهي أوغل في دروب نظريّة (التعبير) من سابقتها, وأصفى تمثّلاً لها. ولعلّه ـ وهو المؤرّخ ـ لم يتحرّج من المزج بينها وبين منهج (السيرة) في قراءة النص, فتتبّع رحلة الحياة من خلال الشعر, وجلاء شخصيّة الذات من خلال القصيدة.
    لكنّ كلتا القراءتينِ لم تعمد إلى تصنيف شعر الشاعر في دائرةٍ ما أو مربّعٍٍ ما, ولم تجنح إلى الحكم عليه, وإنّما قرأتاه على أنّه شعرٌ وكفى, لغةٌ متشكّلةٌ وفق نظامٍ علاميٍّ خاص ينثّ دلالاتٍ شتّى .
    وإذا كانت نظريّة التعبير ـ المفهوم والإجراء ـ قد تحكّمت في طرائقهما التحليليّة فلأنّها ـ في زمانها ـ كانت أرقى ما وصل إليه التفكير النقديّ عند العرب في العصر الحديث, وترامت أصداؤها في حضرموت. ومن هنا صحّ القول عنهما إنّهما قرأتا منطوق الكلام وفق آليّات النقد المتداولة في الساحة الأدبيّة يوم ذاك.
    تقابل هاتين القراءتين قراءتان أخريان لهما سَمْتُهما الأكاديميّ من حيث كانت كلّ منهما أطروحةً نال بها صاحبها درجة الدكتوراه . وأولاهما ـ وهي للدكتور عبدالمطّلب جبر ـ موسومةٌ بـ(تطوّر الصورة الفنيّة في شعر اليمن الحديث 1918 / 1972م), وهي لمّا تزل مخطوطةً, ولكنّ قراءتها متأتيّة مادامت نسخة منها في حوزة أحد الأحبّة . وفيها يذهب الدكتور جبر إلى أنّ شعر البار مندرجٌ في إطار (التيّار الإحيائيّ المجدّد), وعنده أنّه يمثّل ( البوادر الأولى لهذا الموقف ) شأنه في ذلك شأن الشاعر صالح بن عليّ الحامد.[5]
    وهو يُرجع "الإحيائيّة" في شعر البار إلى اشتمال صوره التشبيهيّة على عناصر حسيّة "لا تكشف عن أيّة أبعادٍ نفسيّة للشاعر, لقد توقّفت ـ يعني الصورة ـ عند حدود الإدراك المنطقيّ المباشر, ولم تعكس رؤية الشاعر الذاتيّة في إطار الشعور المسيطر, وهو الشرط الأساسيّ لفاعليّة الخيال الشعريّ الخلاّق".[6] وينسب تجديده إلى "تجلّيات وظيفة التعبير في الصورة الفنيّة, فكانت تبشيراً بالتحوّل إلى الصورة التعبيريّة الإيحائيّة التي اكتملت ملامحها عند شعراء الوجدان"[7].
    تتراسل معها أطروحة الدكتور عبد الرحمن العمرانيّ الموسومة بـ(الاتجاه الرومانسيّ في الشعر اليمنيّ ), وهي مطبوعة في كتابٍ صدر في طبعته الأولى عام 2..2م, عن مركز عبادي للدراسات والنشر. وقد قسّم الدكتور العمرانيّ (شعراء الرومانسيّة في اليمن) إلى فئاتٍ خمسٍ, ووضع في الفئة الرابعة منها ( شعراء خلطوا بين الإحيائيّة والرومانسية في كلّ مراحلهم ), وضمّ ( ضمن هذه الفئة شعراء لم يصدر لهم سوى ديوان واحد يجمع بين الإحيائيّة والرومانسيّة, ويمثّلهم كلّ من حسين البار ...)[8]. ومن عجبٍ أنّ شعر البار يحضر في كلّ تجلّيات شعر (الرومانسيّة) في أطروحة الدكتور العمرانيّ.
    على أنّ هذا ممّا ليس يهمّ في هذا المقام, والأهمّ منه النظر في طبيعة هذا التصنيف وهويّة ذلك الحكم على شعر البار عند الأستاذين الفاضلين د/ جبر ود/ العمرانيّ. فهما يريان قصائد البار في ديوانه الموسوم بـ(من أغاني الوادي ) من المشوبات اللاتي يختلط فيها الإتّباع بالابتداع, وتتداخل الصفات فتتجاور (الإحيائيّة) بالتجديد.
    فهل شعر البار(إحيائيٌّ مجدّد ) بلغة د/جبر, أو قلْ (إحيائيٌّ رومانسيّ ) بلغة د/العمرانيّ ؟
    أو أنّ له سمةً غير هاته الصفة ؟
    وما مظاهر الإحيائيّة في شعره ؟ أهي الالتزام بالبحر والقافية ؟ أم هي منظوره لمفهوم الشعر؟
    وما مظاهر الرومانسيّة في شعره ؟
    وهل في الإمكان أن يجتمع النقيضان في شعر شاعر كهذا الذي وصفاه في أطروحتيهما؟ أو أنّ ذلك غير ممكنٍ ولا جائز؟
    (3)
    تقتضي الإجابة عن هذه الأسئلة استقراء منطوق الكلام على عدد من المستويات, منها منظور (الإبداع)[9] لمفهوم الشعر كما جلاه النص, ومنها طرائقه في التعامل مع اللغة وتشكّلها فيه من جهة المسموع ومن جهة المرئيّ, ومن جهة استخدام (الضمائر) لجلاء الوظيفة المهيمنة فيه, ومن جهة بناء النص.
    أمّا من جهة منظور (الإبداع) لمفهوم الشعر, ففي الديوان قصيدةٌ عنوانها (الشّاعر) تشفّ عن ذلك المنظور وتجلوه, ناهيك بمظانّ متفرّقة اشتملت على صور منه. وجوهره أنّ (الشعر) تعبيرٌ عن (العالم) كما تشعر به الذات الشاعرة.
    هو كالكون ما ترى الكون إذ يبدو جليّاً للنّاس في آياته
    كلّ ما ضمّت العوالمُ من خير وشرّ تراه في مرآته
    فهو في الحقّ عالَمٌ حافلُ الأرجاء بالنادرات من حادثاته[10]

    ولذلك يتشكّل العالم على حسب رغبات الذبذبات الداخليّة للذات الشاعرة, فتضمر موضوعيّة العالم الخارجية أمام غلبة أحاسيس الذات . فليس العالم الخارجيّ ـ على ذلك ـ كائناً متعيّناً متجسّداً بخصائص وسمات وإنّما هو وليد انفعال الشاعر ومتشكّل من خلال ذاته .
    بـلبـلٌ إنْ بكـى تلفّتت الـدنيا إلـى دمعه إلـى عبراته
    أو بدا بـاسماً ترى الكون وَضّاح المحيّا يرفّ فـي بسماته
    ضحكات السرور يرسلهـا الشاعر ملء الفضاء في أغنياته
    وأنين البأساء تسمـعـه لحناً يهـيج الشـعـور فـي أنّاته[11]
    وللخيال طاقةٌ تمنح الشاعر القدرة على خلق عوالم تنأى به عن (وضر) العالم المشهود وقبحه, وتبعد به عن شقائه وبؤسه, فيسعى إلى صنع وجودٍ آخر غير هذا الوجود.
    فهو من قلبه بروضٍ جميلٍ مفعمٍ بالجميل من طيّباته
    وهو من نفسه بأبهـج وادٍ حـافلٍ بالبديع من ظبياته
    هو من ذاك في أريجٍ شذيٍّ مالـئٍ نفسه شذا زهراته[12]
    والشعر على ذلك وحيٌ وإلهام يتنظّره الشاعر. وانسحابٌ من الموجود المشهود إلى أطيافٍ لا يبصرها غير من حلّق حتّى مستواها. فهي أدنى ما تكون إلى معنى الكشف عند المتصوّفة, أو كما قال:
    وعدْ إلـى الفن واستلهمْ روائعه وارسمْ رؤاهـنّ آيـاتٍ لفنّانِ
    واجعلْ من النفس قيثاراً ملاحنه نسج الخيال قصارى كلّ أسيانِ[13]
    وهو ـ إلى كونه وحياً وإلهاماً ـ ذوبُ الوجدان, وعصارةُ القلب النازف المتألّم أو المسرور, سيّان.
    أتريدين رثاءً من دمي ؟ فخذيهِ..إنّه هذا الرثاءْ[14].
    يامولد المختار ما في روضة الغرّيد وردُ
    لكنْ طلعتَ فراح هذا الشعر من قلبي يُقَدُّ
    حُبّاً وإيـمـانـاً يهـلهـله فؤادٌ فيه وقدُ[15]
    سوف أهديك قصيداً يتدفّقْ ...من شعورِ
    هو قلبي بسعير البين يحرقْ ...والنفورِ[16]
    وهو يتسع بهذا المنظور حتّى يشمل الفنّ بمختلف صوره :
    كان تغريدنا رُغاءً فلمّا صغته صغتَ منه خير النشيدِ
    فتحدّثت عن سرائـر أرواحٍ حـزانى به وقلبٍ شهيدِ[17]
    والشعر عنده غناءٌ تفثأُ به الذات الشاعرة حدّة حزنٍ, وتجلو به فرحة قلب. ومن هنا صوّر الإبداع (الشاعر) في هيئة (بلبل), وصوّر (الشعر) في هيئة غناءٍ وتغريد.
    إنّي أنا الغرّيدُ فـي فننِ الهوى ولكم سقيتك من بديعِ فنوني
    ما زال فيك صدى لأنغامي هنا وصدىٍ يرفُّ لآهتـي وأنيني[18]
    ومن مصادر الإلهام الشعريّ ووحيِهِ (المرأة) و(الطبيعة) . ففي الأولى يقول :
    ولن تُصبحي إلاّ غرامي وفتنتي ومصدرَ إيناسي , (وملهمتي شعري)[19]
    وفي الأخرى يقول :
    فأسلموه إليها (فهي موحيةٌ لروحه خالداتٍ من معانيها)[20]
    وفي مثل هذا المنظور تبدو مقولة (شعر الرجل حياته ) ـ وهي من مقولات شعراء الوجدان ـ متحقّقة , وتنزاح عن منظور مفهوم الشعر عند الإحيائيّين حيث شعر الرجل صدى المقروء من كتب التراث وليس نتاج تجاربه في الحياة. قال الباروديّ :
    تكلّمت كالماضين قبلي بما جرت به عادة الإنسانُ أنْ يتكلّما
    ومن هنا بدا شعر الباروديّ وأضرابه نتاج (اللسان), وتراءى شعر البار وأمثاله (كلام الذات ), وبين الحالين فروق يعيها اللبيب المتوسّم .
    ولقد ترك هذا المنظور لمفهوم الشعر آثاره على طرائق الإبداع في تشكيل لغة النصّ وأساليب بنائه . وهو ما يكشف عنه التحليل الآتي:
    (4)
    على مستوى المسموعات: وأتخيّر منها (البنية العروضيّة), أو قلْ إيقاع الإطار أو قلْ الإيقاع الخارجيّ أو ما شئت من تسميات.
    والباعث على هذا الاختيار نابعٌ من رغبةٍ في تحويل الدرس العروضيّ إلى وسيلةٍ نقديّة تسهم في الكشف عن عبقريّة التشكيل في النصّ, هذا من جهةٍ عامّة, وأمّا فيما يتعلّق بمقامنا هذا فلتبيان وظيفة البنية العروضيّة في الدلالة على (معنى / Sense ) النصّ, ومن هنا صحّ لنا التمييز بين عروض (اللسان) وعروض (النص).
    فـ(عروض الخليل بأوزانه وقوافيه) كما جلاها في دوائره الخمس هو عروض (اللسان), أمّا تجلّيات (الإيقاع الخارجيّ / الوزن / الإطار...) في نصوص الشعر فهو عروض النص, وإنّما وسم بذلك لأنّ تشكّلاته على المحورين الأفقيّ والرأسيّ, وتوزّع تفعيلاته, وما يصيبها من زحافات وعللٍ تباعد بينه وبين رسمها في الدوائر العروضيّة الخمس. ومن هنا وضح الفرق بين العَرُوضَيْنِ..فعروض اللسان ثابتٌ, وعروض النص متحوّلٌ متغيّرٌ, عروض اللسان صورةٌ واحدةٌ مكرورة, وعروض النص صورٌ متنوّعةٌ متعدّدةٌ شتّى, عروض اللسان تتحكّم فبه سننٌ عامّة, وقواعد لا تتنوّع, وعروض النصّ يتحكّم فيه (الموقف) و(شكل التعبير) عن الموقف. عروض (اللسان) خطٌّ أفقيّ واحد, وعروض النصّ يتنوّع على محورين أفقيّ ورأسيّ.
    في ضوء هذا التصوّر لمفهوم البنية العروضيّة أنظر في تواتر البحور على المحور الأفقيّ في الديوان, فأجد:
    1ـ استخدم الديوان من عروض اللسان البحور الآتية:{الطويل / الكامل /الوافر / البسيط / الرمل / الخفيف / السريع / المتقارب / المجتثّ / الرجز }. ولم يستخدم منه البحور الآتية:{المنسرح / المقتضب / المضارع / المديد }. وخلط في قصيدةٍ بين بحرين هما [مجزوء الوافر] وبحر[الهزج]. ولم يستخدم (الموشّحة) إطاراً إيقاعيّاً, وإنْ استبدل به أشكالاً أخرى في البناء يأتيك نبؤها بعد حين.
    2ـ غلب في الديوان استخدام البحور في إطار توصيفها الخليليّ, لكنّه انزاح عنها في مظانّ. فقد عدل عن بنية العروض الخليليّ في عددٍ من القصائد بلغت ثلاثَ عشرةَ قصيدةً عدّاً, بنسبة (16.7%) من مجموع قصائد الديوان كاملةً.
    3ـ تراءى سلّم توزّع البحور في الديوان على النحو الآتي:

    البحر نسبة التردّد %
    الطويل 8
    البسيط 1.
    الوافر 11
    الكامل 2
    الخفيف 18
    الرمل 15
    السريع 2
    المتقارب 7
    المجتث 2
    الرجز 2
    نستخلص من ذلك أنّ أكثر البحور في شعر البار تواتراً هي {الخفيف } يليه {الرمل} و{الوافر}, ثمّ يجئ {المتقارب}، ويتدنّى (الطويل) و [الكامل والبسيط] إلى منزلةٍ ثالثةٍ, ممّا يباعد بين خيار (المتن الشعريّ) هنا وبين خيار (الأوائل) من حيث إيثار البحور الرحبة كالطويل والبسيط والكامل على سواها . ولقد بلغت نسبة تواترها مجتمعة في قصائد الديوان(39.7%), مقابل ما بلغته نسبة تواتر البحور القصيرة فيه وهي (60,3%). وفي هذا ما يدخله في إطار تجربة (المجدّدين), وينأى به عن دائرة (الإحيائيّين), ويقارب بين الشعر والغناء من خلال كثرة استخدام البحور المجزوءة في متن الديوان ـ بلغ عدد تكرارها في قصائد الديوان واحدةً وعشرين مرّةً بنسبة (27%) من مجموع قصائد الديوان كاملةً ـ.
    4ـ تنزاح قصائد في الديوان عن عروض اللسان لتتشكّل على طرائق شتّى, فتبارح دوائر (التقليد) وتلج دوائر (التجديد), ولك في الجدول الآتي إجمالٌ يحدّد عدد مرّات تواتر هذه الأشكال المنزاحة عن الشكل القديم في متن الديوان.
    البحر عدد مرّات تواتره
    الرمل 5 مرّات
    السريع مرّتان
    الخفيف 6 مرّات
    الإجماليّ 13مرّة.
    دعنا نتلبّث هنا قليلاً لنصف ـ بالشاهد الدالّ ـ كيفيّات تشكّل هذه البحور في متن الديوان, وسأقف عند القصائد التي تشكّلت في بحري (الرمل ) و(الخفيف).
    ( وللرمل) ـ من حيث هو بنيةٌ عروضيّةٌ في إطار (اللسان) ـ صورتان أساسيّتان تتشكّلان على صورٍ هي:
    1ـ الرمل تامّاً: وله ثلاثُ صورٍ:
    1ـ عروضه محذوفةٌ والضرب صحيح:
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
    2ـ عروضه محذوفةٌ والضرب مقصور:
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتْ
    3ـ عروضه محذوفةٌ والضرب محذوف:
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
    2ـ الرمل مجزوءاً, وله ثلاثُ صورٍ:
    1ـ عروضه صحيحةٌ والصرب صحيح:
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
    2ـ عروضه صحيحةٌ والضرب محذوف:
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
    عروضه صحيحةٌ والضرب مسبّغٌ :
    فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتانْ
    وعلى تلك الصور جرى استخدامه في تاريخ الشعريّة العربيّة إلى عصر الإحيائيّين, حتّى إذا اقتحم ميدان الشعر شعراء الوجدان مسّوا تلك الصور بتغيير, وتراءت له أشكالٌ غير التي ألفتها الشعريّة العربيّة في قديم الزمان. ولم يكن شعر البار بمنأى عن أشباه تلك التغييرات ولا بعيداً عنها. فتشكّل (بحر الرمل) في شعره على صورٍ غير التي ذُكِرت سلفاً. ومن تلك الصور:
    1ـ المزج بين (المشطور) و(المنهوك) في بنيةٍ عروضيّة واحدة, كما في قوله :
    عِمْ مساءً يا منى قلبي العميدْ عِمْ مساءَ
    عِمْ وإنْ لذتَ بأذيال الصدودْ كبرياءَ[21]
    هنا يتشكّل (البيت) من شطرين غير متوازيين, فجاء أوّلهما مشطوراً قوامه ثلاث تفعيلات في الصدر, وجاء ثانيهما منهوكاً قوامه تفعيلةٌ واحدةٌ لا غير في العجز. وانتظمت فيه قافيتان في بنية (التشريع), فغدا للصدر المشطور قافية هي (ميدي) , وللعجز المنهوك قافية أخرى هي (ساءا). وخرج كيان القصيدة من مفهوم البيت الواحد إلى تشكيل (الدو بيت). وهذا تشكيلٌ عروضيّ لم تألفه الشعريّة العربيّة فلم تكثر من استخدامه إلاّ في عصر ما بعد الإحيائيّين, ونجد أشباهها في أشعار المهجريين وبعض شعراء أبوللو في مصر.
    2ـ العدول عن صورةٍ موزونة بإحداث تغييرٍ في عناصرها, ومن ذلك أنّ مجزوء الرمل تجئُ عروضه صحيحةً, وقد يمسّ ضربها تغييرٌ بحذفٍ أو بتسبيغٍ ..لكنّه اُستخدِم في شعر البار بعَروضٍ محذوفةٍ انزياحاً عن مسايرة الأصل. قال:
    ثغرُك البسّامُ كم فيه تحلو القبلُ
    ما الذي حلّ به خمرةٌ أو عسلُ[22]
    وهنا يتشكّل مجزوء الرمل من عروضٍ محذوفة (فاعلن), وضربٍ محذوفٍ مخبونٍ (فعلن). وهي تشكيلةٌ نقرؤها في (أطلال) إبراهيم ناجي حين قال:
    لستُ أنسـى أبداً ساعةً في العُـمُـرِ
    تحت ريحٍ صفّقت لارتقاص المطـرِ
    لوّحـتْ للـذكـرِ وشـكت للـقـمـرِ
    وإذا مـا طـربت عربدت في الشجـرِ
    وهذا ممّا لم يجرِ شبيهه في تاريخ الشعريّة العربيّة حتّى عصر الإحيائيّين.
    3ـ استخدام البحر مجزوءاً في نظام المقطّعات, حيث تتكوّن المقطّعة من أربعة أبيات متحدة الرويّ ثمّ تختتم بلازمةٍ متكرّرةٍ غايتُها كسرُ رتابة الإيقاع ونمطيّة النسق, كما نجد ذلك في قصيدة (ليلة الذكرى). ومنها:
    مرحباً يا لـيلـة العمر المفدّى ألف مرّه
    فيك آمنْتُ بأنّ الحبّ فـي الأكوان فطره
    هُوَ روحُ الطهرِ يلقى فيه من يدنس طهره
    وهو صوت الله تحيـي كلّ قلبٍ منه نبره
    في سكون النفس ليله[23]
    ثمّ تتلوها مقطّعةٌ مماثلةٌ في الوزن, مغايرةٌ لها في (القافية), تتكوّن من أربعة أبياتٍ تختم بلازمةٍ قافيتها ـ كما في سواها ـ هي المفردة (ليلة) . وهذا تشكيلٌ عروضيٌّ يغاير به النصُّ عروض اللسان من جهات, أوّلها عدم اعتماد القافية الواحدة والرويّ الواحد في القصيدة كلّها, ثانيها اتخاذ اللازمة قفلاً لأبيات المقطّعة التي يتشكّل منها ومن أخواتها الأخريات كيانُ القصيدة, وفي هذا انزياحٌ عن مفهوم الأوائل عن وحدة البيت, وتشكُّل القصيدة في إطاره...إ لخ.
    وحسبي هذا وصفاً لانزياح (عروض النص) عن (عروض اللسان) في إطار بحر الرمل, لأنتقل إلى بحرٍ آخر هو (بحر الخفيف).
    وللخفيف من حيث هو بنيةٌ عروضيّةٌ في إطار اللسان صورتان إحداهما تامّة, والأخرى مجزوءةٌ, ولهما صورٌ:
    1ـ الخفيف تامّاً, ويتشكّل على النحو الآتي:
    1ـ عروضه صحيحة وضربها مثلها صحيح:
    فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
    2ـ عروضه صحيحة وضربها محذوف:
    فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلن
    3ـ عروضها محذوفة وضربها محذوف:
    فاعلاتن مستفعلن فاعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلن
    2ـ الخفيف مجزوءاً, ويتشكّل على النحو الآتي:
    1ـ عروضه صحيحة وضربها صحيح:
    فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلن
    2ـ عروضه صحيحة وضربها مقصور:
    فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلْ
    وعلى تلك الصور تجلّى في دواوين شعراء العربيّة من قديم الزمان إلى حديثه, لكنّه تشكّل عند شعراء الوجدان على صورٍ شتّى لا يهمّنا استقصاؤها في هذا المقام, وإن كان تقرّي ظواهرها في شعر البار هو ما يشغلنا ويهمّنا جلاؤه. ومن تلك الصور:
    1ـ استخدام البحر مشطوراً في نظام المقطّعات, حيث تتكوّن المقطّعة من أربعة أشطارٍ, ثلاثة منها برويٍّ متحدٍ, والرابع برويٍّ مخالفٍ لرويّ الأشطار الثلاثة الأولى, لكنّه متفقٌ مع حرف الرويّ في أشطار (المقطّعة/ المطلع) التي يفتتح بها النص, وهو ما نجده في قصيدة (زهرة) حيث تفتتح بقوله:
    أنتِ لـي يا نجيّةَ الروحِ زهره
    ينشق الروح من معانيكِ عطره
    ويرى فـي عذاب حبّكِ طهره
    وبسامـي هـواكِ يـلهمُ شعره[24]
    وهنا تتحكّم قافية الأشطار الأربعة في المطلع ورويّها في قافية الشطر الرابع من كلّ مقطّعة لاحقةٍ وحرف رويّه على النحو الآتي:
    أنتِ ما أنتِ؟ قـدّستكِ السماءُ
    أنتِ روحٌ وجـنّـةٌ وضيـاءُ
    فاسكبي فـي حين يأتي المساءُ
    وتـنـامُ الدنيا من النور قطره[25]
    ...وهكذا. وهذا تشكيلٌ للبحر, ولبنية القصيدة ينزاح عمّا ألفته الشعريّة العربيّة في عصورها القديمة وحتّى عصر الإحيائيّين, حيث جرى استخدام البحر وفق عروض اللسان الموصوف سلفاً, وعلى نظام البيت ذي القافية الواحدة والرويّ الواحد.
    2ـ استخدام البحر مجزوءاً في نظام المقطّعات كما في قصيدة (المزهر المحطّم)[26] حيث تتكوّن المقطّعة من خمسة أبياتٍ تستقلّ كلّ قافيةٍ برويٍّ يغاير رويّ المقطّعة التالية. وهنا يتشكّل ضربُ البيت في المقطّعة على غير ما جرى به الاستخدام في أشباهه في عروض اللسان, وإذا به يجئُ مسبّغاً في كلّ مقطّعات النص ما خلا المقطّعة الثانية منه. وتداخلت (القوافي) فيه ما بين قافيةٍ من (المترادف) وقافيةٍ من (المتدارك), وبينهما اختلافٌ صوتيٌّ لم تألفه الشعريّة العربيّة من قبل, ولكنّه ساغ في النص حيث منحه نظامُ المقطّعات حظّاً من الحريّة أسهم في خلق الاتساق بين قوافي النص.أضف إلى ذلك موالاة سناد الردف بين (الواو والياء) من جهة, و(الألف) من جهةٍ أخرى. ولقد رخّص عَرُوضُ اللسان للشعراء الموالاة بين الياء والواو من حيث هما صوتان يستخدمان ردفاً في القوافي المردفة, لكنّه لم يُجِزِ الموالاة بينهما وبين الألف, بيد أنّ عروض النص لم يَرَ بأساً في ذلك, فساغت فيه هذه الموالاة بسببٍ من الانزياح عن نظام البيت الواحد, وحرف الرويّ الواحد والقافية الواحدة. وفي هذا عدولٌ عن نظام بنية عروض اللسان الذي جرى استخدامه في تاريخ الشعريّة العربيّة حتّى عصر الإحيائيّين في الزمن الحديث.
    3ـ استخدام بحر الخفيف تامّاً, ولكنّه ينزاح به عن نظام القصيدة ذات البيت الواحد ذي القافية الواحدة والرويّ الواحد إلى نظام المقطّعات المتعدّدة القوافي وحروف الرويّ, كما نجد في قصائده (الحسين بن عليّ / صمت البلبل /في الصباح / بين عهدين)[27], وهو ممّا لم يجر استخدامه في إطار القصيدة العربيّة بشكلها الموروث.
    وفي هذا كلّه وسواه ما يشي بانزياح متن الشعر في ديوان (من أغاني الوادي) عن عروض اللسان, وسعيه إلى تشكيل عروض النصّ كما اقتضى (الموقف), وشكل التعبير عنه. ومن هنا تراءت نصوصه أنأى ما تكون عن نصوص الإحيائيّين المحافظين على بنية عروض اللسان من ناحيةٍ, وأدخل ما تكون في نصوص المجدّدين من شعراء الوجدان الذي حرصوا على تشكيل عروض النص وإنْ كان في ذلك مروقٌ على عروض اللسان.
    على أنّ لقائلٍ ـ بعد أن سلف ما تقدّم ذكره ـ أنْ يقول: إنّ نسبة عدد القصائد التي انزاح بها الإبداع عن عروض اللسان تبدو ضئيلةً حين تقاس إلى نسبة القصائد التي صدر فيها عن ذلك العروض. وهذا رأيٌ أدفعه بقولين, أوّلهما أنّ جميع شعراء الوجدان لم يكن إيغالهم في الخروج على عروض اللسان بعظيم, وإنْ أجادوا وأبدعوا في سواه, وحسبك بالشاعر المصريّ علي محمود طه مثلاً شروداً, فقد أصدر ديوانه الأوّل (الملاّح التائه) وفيه ثلاثٌ وعشرون قصيدة منسوجة على عروض اللسان, أمّا القصائد المنزاحة عن ذلك العروض فلا تزيد على العشر عدّاً. والقول في هذا لا يبعد عن ذاك. وثانيهما أنّ تجديد القصيدة لا ينحصر في إطار بنيتها الإيقاعيّة, وتغيير شكل بنائها العروضيّ, وإنّما تتعدّد صوره وتتنوّع تجلّياته فيها, ويغدو التجديد في بنية الإيقاع صورةً من صوره, ومستوى من مستوياته. ومن هنا ينفتح الدرب أمامنا للحديث عن
    (5)
    مستوى المرئيات في الديوان والمقصود بالمرئيّات ما يدعوه بعضهم بالصورة الفنيّة. وهي في الشعر تشكيلٌ لغويٌّ يعمد فيه الإبداع إلى تجسيد المعاني المجرّدة في هيئةٍ ماثلة تعاينها الباصرة. وهو يتجلّى في عدد من التشكيلات, منها ما هو (بنى بيانيّة), ومنها ما ينساب حرّاً لا يتأطّر في بنية مخصوصة, فتتعدّد عناصرها دون أن يشملها إطار واحد, ولذلك لا تتكرّر, بيد أنّها لا تبعد عن أن تكون في هيئة واحد من الأشكال الآتية..فإمّا أن تكون (لوحة), أو(لقطة), أو (مشهداّ)[28] .
    وأيّةً كانت الصورة بيانيّةً أم حرّةً, فإنّ النص لا يخلو منها, وإنّ لها وظيفتها فيه من حيث الدلالة على هويّته الإبداعيّة. ومن هنا وجب النظر في طبيعة (المرئيّ) في هذا الديوان للوقوف على سمته الأدبيّة, أهي إحيائيّة محض ؟ أم هي تجديديّة محض ؟ أم مزيج من هذا وذاك كما زعم الأستاذان الفاضلان الدكتور جبر والدكتور العمرانيّ ؟ وهو أمرٌ يقتضي البتُّ فيه إدراكَ الفوارق بين طرائق استخدام بنى الصورة عند شعراء هذه الرؤية أو تلك من خلال الينابيع التي استقت منها الصورة علاماتها وشكّلت بها بناها, ومن خلال طبيعة الوظيفة التي تنهض بها الصورة في نسيج النص. أمّا البنية من حيث هي فموجودةٌ في كلّ نصّ, يستوي في ذلك أنْ يكون قديماً موغلاً في الزمن أمْ جديداً حديث عهدٍ بالوجود. ومن هنا جاز لنا أن ندرس الصورة على أساسٍ من تواترها على مستوى المحور الأفقيّ, ولم يجُزْ لنا ذلك الدرس على أساسٍ من تواترها على مستوى المحور الرأسيّ, فهيمنت (التزامنيّة) على (التعاقبيّة) عند درس الصورة الفنيّة في النص.
    ولعلّ في هذا ما يسمح بعرض مأخذٍ على المتحدّثين عن (تطوّر الصورة الفنيّة) في الشعر, من جهة أنّ الصورة الفنيّة من حيث هي بنيةٌ لغويّة يشكّلها الإبداع لا تتطوّر وإنّما تنماز بسببٍ من طرائق الإبداع في التعامل مع اللغة, فلقد يقف عند دائرة الموروث فيقلّده , ولقد يتجاوزه فيوغل في دروب التجديد, لكنهما يشتركان في استخدام ذات البنية ولا مراء. وأنت لن تجد شاعراً لا يستخدم بنية الصورة التشبيهيّة مثلاً في أيّ عصرٍ, لكنّك تجد فوارق شاسعةً في طرائق استخدامها عند كلّ الشعراء في كلّ عصر وإنّما تجيء تلك الفوارق من جهة الينابيع الدلاليّة ومن جهة وظيفة الصورة في النص ناهيك بسمة أنماطها. وهو أمرٌ لا يسمح بوصفها بالتطوّر, وإنّما يُجيز لك وصفها بالامتياز أو عدمه.
    على أنّي ـ وإنْ سلف ما قد سلف ـ سأعمد إلى وصف طرائق الإبداع في تشكيل المرئي ّفي نصّه من خلال شواهد دالّة ابتغاء النجاة من شبهة إصدار (الأحكام) على الشعر, وتهمة (تصنيف) الشعراء في دوائر ومربّعات. وهنا يكون للوقوف عند منطوق الكلام غايته ودلالته. قال:
    أقـبـلـت تجتلي الصباح الجميلا وتعبّ الرحيـق والسلسبيلا
    أقـبـلـت تجتليه فـي وجهه الضاحـي وفـي نسمه شذيّـاً عليلا
    أقـبـلـت تجتليه فـي كلّ أغـرودة طـيرٍ بـهـا يحيـي النخيلا
    أقـبـلـت تجتليه فـي مـوكب الشمس بإشعـاعه مهـيـبـاً جليلا
    فـرأت مـشهـداً يضيء الأمـاني ورأت مـنظـراً يحـير العقولا[29]
    تتشكّل الصورة ـ هاهنا ـ في إطار بنية الاستعارة المكنيّة حيث تتماهى العلاقة بين أشياء الوجود وأحيائه, فتغدو (المرأة / المحبوبة) فراشةً, ويتراءى (الجمال) رحيقاً وسلسبيلاً, ويبدو (الصباح) كائناً حيّاً ذا وجهٍ صبيح, ثمّ يتحوّل إلى كائنٍ مائيٍّ ترقّ به النسائم ويفوح منه الشذا حين تهبّ عليلةً, وتتراءى ( أغاريد الطيور) تحيّات المودّة تبعثها إلى النخيل, وهنا يتلبّس الطيرُ والنباتُ سمات البشر الأحياء حين يتهادون التحيّات العاطرات, وتظهر (الشمس) تتهادى في إشعاعها الذي يتحوّل إلى موكبٍ عظيمٍ يليق بتلك الملكة.
    وعلى هذا النحو من الاستخدام تبارح (الدوال) مدلولاتها لتتدثّر بمدلولاتٍ غير التي وضعت لها في أصل اللغة ممّا يشي بنزوع الإبداع إلى الانزياح بطرائق تشكيل الصورة عن الموروث, والإيغال بها في عوالم (التجربة), ولذلك تراءت الدوال التي شكّلت بنية الصورة في النصّ منبثقةً من حقلٍ دلاليٍّ واحد هو حقل (الطبيعة), وهنا يبدو (التماثل) قانوناً متحكما في إنتاجها, فانسجمت على مستوى المحور الرأسيّ وائتلفت على مستوى المحور الأفقيّ, ومن اندغامهما تولّدت شعريّة الصورة في النصّ.
    وتشكُّلُ بنية الصورة في إطار بنية الاستعارة المكنيّة أسهم في اتسامها بصفة ( التشخيص) من جهة عمليّة الاقتران اللغويّ بين الدوالّ, حيث تتلبّس الموجودات من نباتٍ وجمادٍ وطيرٍ ماهيّةَ أفعال (الإنسان), وتصدر عنها وكأنّها إيّاه. وهو ما قد نجده في قولٍ آخر له غير هذا القول, وتتضمّن في ثناياه صفةً أخرى غير هذه الصفة. قال:
    فـيـا أمـلاً هدهدته فـي أضـالـعـي وأرعيته قـلبـي ينـاغـمـه الشعرُ[30]
    تتولّد بنية الصورة هنا من إطار بنية الاستعارة التصريحيّة حيث تبدو (المحبوبة) ـ المستعار له ـ هي (الأمل) ـ المستعار ـ, لكنّ المستعار له أُضمر ذكره في النصّ ليتجلّى المستعار ظاهراً, ويبدو (النداء) قرينةً تدلّ على المستعار له. ثمّ يتحوّل دال (الأمل) ـ وهو معنويٌّ مجرّد ـ في إطار بنية الاستعارة المكنيّة إلى طفلٍ تهدهده الذات المتكلّمة, وتغدو (الأضالع) مهداً يلقى فيه (الأملُ) كلَّ صور الحنوّ والشفقة والعطف.
    تتمدّد الصورة بعد ذلك لتغدو (المحبوبة) المندغمة في (الأمل) إلى ظبيةٍ ترعى القلب, ويتحوّل (القلب) إلى (عشبٍ) تتغدّى به تلك الظبية, وهو ما يجلوه لك الرسم الآتي:
    المستعار له: المحبوبة * ↔ القلب
    ↓↑
    المستعار منه: ظباء * ↔ عشب *
    ويقوم الفعل (أرعى) بوظيفة المَحْرَق الذي تتولّد عنه الصورة, وهو هنا المستعار المتجلّي في متن النص.
    تتراسل مع هذه الصورة صورةُ الشعر وقد غدا راعياً يعزف بالمزمار أنغاماً تُسرُّ بها المحبوبة وتطرب. وهنا تتكامل هيئات الصورة الاستعاريّة فيتراسل اتسامها بـ(التشخيص) مع اتسامها بـ(الإيحاء) كما نجد في (يناغمه الشعر) و(الأمل الذي هدهدته الذات في أضالعها).
    ومثلما اندغم (التشخيص) بـ(الإيحاء) في الصورة السالف ذكرها اندغم (التجسيد) بـ[(الإيحاء) في قوله:
    خنتني والقلوب منصهراتٌ دامياتٌ بحزنهنَّ زواخرْ
    خنتني والعيون منحدراتٌ مثقلاتٌ بدمعهنَّ شواكرْ
    والأمانيُّ في الصدور تهصّرنّ وقد كُنّ قبل ذاك نواضرْ[31]
    تتشكّل بنية الصورة في إطار بنيتين إحداهما بنية الاستعارة المكنيّة. وثانيتهما الصورة الكنائيّة حيث تتجلّى للدال دلالتان إحداهما مرجعيّة, وأخراهما إيحائيّة, وهو ما سيبين لك أمره لاحقاً.
    وفي بنية الاستعارة المكنيّة تتجلّى (القلوب يصهرها الحزن) (ذهباً تصهره النار) فتذيب كيانه وتحوّله من جمادٍ إلى سائلٍ منسكبٍ. وهو ما يمكن جلاؤه وفق الرسم الآتي:
    مستعار له: الحزن ↔ القلوب
    مستعار منه: النار* ↔ الذهب*
    ويقوم اسم المفعول (منصهرات) بدور المَحْرَق المولّد للاستعارة في البيت. وهنا يقترن دالّ يشير إلى (جماد) بدالّ يشير إلى (مجرّد) ممّا يسم الصورة بسمة التجسيد. لكنّ صورة الأماني في البيت الثالث من الأبيات المذكورة سلفاً تتجلّى في بنية الاستعارة المكنيّة على نحوٍ من الشكل الآتي:

    مستعار له مستعار منه مستعار
    الأمـاني ═ الثـمـار تهصر ناضرةً
    وهنا يقترن دالّ يشير إلى (كائن حيّ) ـ غير الإنسان ـ وهو (الثمار) بدالّ يشير إلى (معنويّ) مجرّد وهو (الأماني) ممّا يسم الصورة بسمة الإيحاء.
    ثمّ يكون للصورة الكنائيّة حضورٌ في النص, ولها بُعْدُها الإيحائيّ من حيث تجاوزها لأصلها المرجعيّ الذي انبثقت منه, وهو ما نجده في البيت الثاني من الأبيات المذكورة سلفاً. ولك في الرسم الآتي جلاء لبنية الصورة الكنائيّة فيه.
    دال
    المدلول الأوّل ═ مرجعيّ غير مقصود
    العيون منحدرات الدموع متساقطة.
    المدلول الثاني═ إيحائيّ مقصود
    شدّة الحزن وحرقة الألم.
    وهنا يتراءى الإبداع وهو يتجاوز بالصورة حدّ (الوقوف عند حدود الإدراك المنطقيّ المباشر ) ويفضي بها إلى منازع التعبير بالصورة عن الفكرة والإحساس وجلاء الرؤية والموقف, ممّا يباعد بين الإبداع وبين تقرير الفكرة واستجلابها من مظانّ شتّى لا ترابط بينها ولا وحدة ولا اتساق. وهو لا يحقّق ذلك في نصه حين يعمد إلى تخيّر بنية الاستعارة المكنيّة وحسب بل تراه يصنعه حتّى وهو يعمد إلى بنية الصورة التشبيهيّة, وهي في حسبان بعض الدارسين أدنى درجات الكلام شعريّةً. قال:
    يا بنفسي جسماً من النور شفّافاً وروحاً تهفو إليه الضمائرْ
    وابتساماً كأنّـه بسمةُ الأملاك والكوكبُ المضـئُ السائرْ
    وحديثاً تخاله همسات القلب أو أنّه أغـاريـد طائرْ
    هنا تقوم الصورة على أساسٍ من علاقة المشابهة بين أجزائها, ويسهم الشكل الآتي في إيضاح طرائقها في التشكّل:
    مشبّه أداة تشبيه مشبّه به وجه الشبه
    بسمة الأملاك الطهارة
    الابتسام كأنّ
    كوكب مضئ الإشراق
    وهنا تتجاوز الصورة حدود المطابقة الحسيّة بين المتشابهات لتوغل في دروب الإيحاء والتعبير (بالتخييل). ومثله ما جاء في البيت الأخير من الأبيات الثلاثة المذكورة سلفاً, وهو ما يمكن جلاؤه وفق الرسم الآتي:
    مشبّه أداة تشبيه مشبّه به وجه الشبه

    همسة القلب
    الحديث تخال عذوبة الصوت ووقعه في النفس
    أغاريد طائر
    ولقد مرّ بنا سلفاً القولُ إنّ تجديد النصّ لا يقف عند حدود تجديد شكله العروضيّ وإنّما يتصل بطرائقه في تشكيل الصورة, وكما عرفنا من قبل أنّ (عروض اللسان) يخالف (عروض النصّ) في صورٍ شتّى, فإنّا نجد في مجال التشكيل المرئيّ شيئاً مثل ذلك, ومن هنا يبدو الفارق بين التقليديين والمجدّدين في عمليّة التصوير هي في طرائق كلِّ منهم في استخدام البنية من حيث هي (بنية اللسان) أو هي (بنية النصّ).وإنّها في النصّ المجدّد تتشكّل متنوّعةً لتنزاح عن (بنية اللسان) وتغدو (بنية النص), وتتحكّم فيها حينئذٍ علاقاتٌ بين العلامات غير التي درج عليها التقليديّون من الشعراء. قال الشّاعر البار:
    أينسـى سـمـاءً كقـلب الـحبيب صـفـاءً بـأنجمها حاليه؟
    يـرفُّ إذا اسـودَّ روح الـجـواءِ شعـاع كواكـبـها الهاديه
    كومض المنى ـ في ضمير الظلام ـ يفيض علـى الأنفس الذاويه
    أينسـى جـبـالاً كـثـقـل الزمان ثوى عندها السفح والرابيه؟![32]
    في النص عددٌ من الصور التشبيهيّة, منها ما جاء في بنية التشبيه المفصّل, ومنها ما جاء في بنية التشبيه المجمل, وفي كلا البنيتين تُستخدم (الكاف) أداةً يصنع بها النص تشبيهاً محضاً يشاكل به بين المتشابهات, وليس في هذا ما ينماز به النص عن سواه, بيد أنّ امتيازه يجئُ من جهة مجاوزة (المقاربة في التشبيه) بين المحسوسات, فإذا هو يمزج حسّاً بمعنى, ومتعيّن بمجرّد, (فصفاء السماء) حسّيّ, و(صفاء القلب) معنويّ, وفي الصورة نوع من القلب والعكس, وهنا ينبثق التضادّ من التشابه. وقل مثل ذلك في تشبيه (الشعاع بومض المنى), وتشبيه (الجبال بثقل الزمان). وإذا كانت الصورة من جهة البنية متسقةً مع الموروث منها في كتب البلاغة وأشعار الشعراء فإنّ مكوّناتها تبارح ما عُرف بعمود الشعر من حيث عدم المقاربة بين المتشابهات, وهو ما التزم به شعراء الاتّباع ومن أوغل مثلهم في دروب التقليد، وتنكّبه شعراء الابتداع ومن هام في بيدائه منهم.
    وللصورة في الشعر فاعليّةٌ تتولّد عن ترابط وظائفه بنواتجُهُ الدلاليّة. ولقد تكون نفسيّةً كما في قول الديوان:
    وسـاقـيـةٍ شـدوهـا مـطـربٌ تحيـي النخيلً بلحنٍ سريعِ
    وتجـهـشُ للشمسِ عـند الأصيـل وتشدو لموكبها في الطلوعِ[33]
    هنا تتجلّى (الساقية) في هيئة (مغنّية) , ويتراءى (انسياب الماء) (شدواً مطرباً) , فتتشكّل بنية الصورة في إطار الاستعارة المكنيّة على نحوٍ من الرسم الآتي :
    المستعار له الساقية↔ انسياب الماء*
    المستعار منه مغنّية* ↔ شدو مطرب
    ويبدو (النخيل) كائناً حيّاً ذا مودّةٍ وألفة, فهو (يحيي) ويستقبل بالتحيّة, وفي هذا ما يسم الصورة بسمات منها (أنسنة) الطبيعة, ومنها تنوّع الحركة في الأبيات, ناهيك بتداخل بنى الصورة, فبنية الصورة البيانيّة تندغم في ثنايا هيئات الصورة الحرّة, لكنّ ذلك ممّا لا يشغلني هنا, وأولى منه بالذكر ما للصورة من فاعليّةٍ وأثر. وهو ما نستخلصه من (دوال) البيت الثاني من ذينك البيتين.
    وتـجـهـش للشمس عند الـغـروب وتشدو لـمـوكـبهـا فـي الطـلـوعِ
    ولقد تهيّأ لي عرض ذلك في قراءةٍ سابقةٍ خلصتُ منها إلى ما نصّهالبار أحكام الدّارسين ومنطوق الكلام تظهر حالتان متقابلتان لخرير الماء حين ينساب في ظرفي زمانٍ هما وقت المساء وقد انحدرت الشمس للغروب فإذا بالساقية تجهش, ووقت الصباح وقد آذنت الشمس بالشروق فإذا بالساقية تشدو. والواقع أنّ الصوت هو الصوت, والخرير هو الخرير, لكنّ إحساس الناظر بهما في لحظتين متقابلتين متناقضتين غيّر في نوع الصوت ونوع خريره, فإذا هو نحيبٌ في لحظة الغروب لما يوحي به مشهده من حزنٍ وأسى وظلمةٍ وفراقٍ وخوف, وهو ما يتراسل مع حال البكاء والنحيب. وإذا هو شدوٌ مطربٌ في لحظة الشروق لما فيه من معاني الفرح والرجاء والضياء والتواصل الإنسانيّ الحميم وهذا أمرٌ نفسيٌّ محض).[34]
    (وقريبٌ منه قوله في قصيدةٍ أخرى:
    والدهـر يـمـزج حـزنـه بـسروره كـالـنار تكـمن فـي ذرور رمادِ
    إنّ التأمّل في بنية الصورة يُنتج لنا الرسم الآتي:
    مشبّه الحزن ↔ السرور
    مشبّه به النار ↔ الرماد
    ويقوم (الكاف) بتحقيق مشابهة محض بين عنصري الصورة, لكنّ النظر فيها ينبئ أنّه إذا صحّ أن الحزن نارٌ تلتهب في الأحشاء فإنّه لبعيدٌ أنْ يكون السرور رماداً . بيد أنّ إحساس الذات بالفجيعة وامتلاءها بالحزن جعلها لا ترى للسرور أثراً, وإنّما هو رمادٌ متناثرٌ ذاهبٌ في اللاشئ, وإنّما القارُّ في الأعماق هو الحزن يفعل في النفس الأفاعيل)[35].
    هذا الاستبطان لأثر الوجود على الذات تكشف عنه الصورة, ممّا يَسِمُها بالوظيفة النفسيّة. تتراسل معها وظائفُ أخرى للصورة منها, الوظيفة الانفعاليّة وهي التي يتضمّنها قوله:
    والأفق يـبـكـي بدمع السحب هاطلةً ترى أتلك دموع البشر يذريها؟
    ومـا تعـي فـي فـجاج الشمّ قهقهةً وأغنياتٍ لسانُ المـاء يرويها؟
    كـأنّه شدَّ مـن صخر الـربـى وتراً وراح للأفُقِ الـنـائـي يغنّيها[36]
    تتوالى الصور الاستعاريّة لتثير في المتلقّي انفعال الفرح بهطول المطر, فاستحال (البكاء) بُشْرى, وغدت دوالّ مثل(الغناء / القهقهة / الوتر...) علامات على ذلك الفرح.
    ومثل ذلك ما نجده في قوله:
    وصوت الرعد ـ مختلف المقاطع ـ ليس ينقطعُ
    كـأنّ هـزيـمـه نُذُرٌ من الـجبّار تـُسْـتـمعُ
    كـأنّ الـبـرقَ بسمتُه عـلـى الشفتـيـن تنطبعُ[37]
    حيث تتجلّى صورتان تشبيهيّتان تنتج الأولى انفعال الخوف والفزع, وتلد الثانية انفعال الأمن والاطمئنان, ومن هذا التقابل الضدّيّ تكون للصورة طاقة على الإيحاء, فتتجاوز حدَّ أنْ تكون مجرّد زخرفٍ ومظهر تزيين.
    عدِّ عن ذلك وقفْ معي عند قوله:
    تـرى مـاءً يطارد بعضه بعضاً ويتّبعُ
    كـحـيّـاتٍ تَلـَوّى في مساربها وتنقبعُ
    أحال الصخر قيثاراً وغنّـى وهو منسرعُ[38]
    تَرَ (الماء) في هيئة متنافسين في حلقة سباقٍ كلٌّ يطرد فيها ليظفر بالسبق فإذا هم جماعات تتدافع مسرعةً, وهو ما يظهرها لك الرسم الآتي:
    مستعار له مستعار منه المستعار
    الماء خيول السباق يطارد
    ثمّ يتحوّل الناظر عن هذا المنظر لينشغل بسواه, وهو تعرّج سير الماء على الأرض فيتراءى كالحيّة الضخمة التي لا تعرف استقامةً في سيرها, وهو ما تجلوه اللغة في بنية التشبيه المجمل في البيت الثاني من البيات الثلاثة المذكورة سلفاً.
    وهنا وهناك تظلّ حاسّة البصر مهيمنةً على إنتاج الصورتين في البيتين, فهما ـ ما كان استعارة وما كان تشبيهاً ـ صورتان بصريّتان, لكنّ الإبداع يعدل عنها فتهيمن حاسّة السمع على إنتاج الصورة فإذا بالماء المنساب من فوق الصخور يستحيل عازفاً يصوغ أعذب الألحان وأشدَّها طرباً, ويتراءى الصخر ـ على يبوسته وصلادته ـ قيثاراً تصدر عنه تلك الألحان العذبة المطربة, ويغدو انسياب الماء على تلك الصخور غناءً عذباً رقيقاً. وهنا تتراءى للصورة وظيفة جماليّة غايتها بعث البهجة في نفس المتلقّي, وإمكانها من الالتذاذ بالنصّ. أفتراه لهذا قيل: إنّ من البيان لسحراً ؟
    انظر في صورة أخرى تمنح الوظيفة الجماليّة ذاتها, وهي التي تضمّنها قوله:
    والزهور المعطّرات ثغورٌ مـاحياتٌ مـا شئتَ من أوصابِك
    والغصون الرطاب والنهَرُ الصافي وروح النسيم من أحبابِك[39]
    تُظْهِر الصورةُ علاقةَ مماثلة بين أشياء الوجود وأحيائه مستخدمةً بنية التشبيه البليغ, وهي من بنى الصورة الاستعاريّة, وصلتها متينة بالاستعارة التصريحيّة, وفيها نرى الزهور وقد غدت ثغوراً, ونرى (الأحباب غصوناً رطاباً, ونهوراً, ونسائم ) ممّا يوحي بالألفة والمودّة فيتعطّر الجو بعبير المحبّة والصدق . وتنحصر وظيفة الصورة في جلاء جمال العلاقات بين الأشياء والأحياء, ممّا يبعث في نفس المتلقّي لذّةَ الإحساس بجمال الوجود.
    ولا يُخْلي الإبداعُ الصورةَ في مظانّ من النص من وظيفةٍ تعبيريّة غايتها الكشف عن رؤية الذات للعالم وموقفها منه. وهنا يهيمن ضمير المتكلّم على البنية اللغويّة, ويغدو حضوره مؤشراً علاميّاً على رغبة الذات في الإعلان عن وجودها الكونيّ في هذه اللحظة أو تلك. قال:
    مـدلّـهتـي مالها مالها تـدلُّ وتـكـثـر إدلالها
    أريـها فؤاداً نقشت عليه هواها الجمـوح وإجلالها
    وأجعـل منه لهـا معبداً وأبذل روحـي فـداءً لها
    وأرسله نغـماً حـامـلاً أمـانـيَّ نـفسٍ وآمـالها[40]
    هنا يتشكّل (الفؤاد) على هيئات, وتتجلّى بين عناصرها جملةٌ من العلاقات, ممّا يؤذن بتوالد الصورة, ويشي بقدرة (الإبداع) على التأليف بين البنى المُتخيَّرَة من (اللسان). فنجد بنية الاستعارة المكنيّة وهي تنشئ علاقة تماهٍ متراسلة مع بنية التشبيه البليغ وهي تنشئ علاقة تماثل بين الدوال, لكنّ الإبداع يؤلّف بينهما في تناغمٍ وانسجام, فتتشكّل من ذلك كلّه صورة (الفؤاد) على نحوٍ من الرسم الآتي:
    الفؤاد [مستعار له]
    في بنية الاستعارة المكنيّة في بنية التشبيه البليغ
    طرسٌ← مستعار منه معبدٌ {مستعار} نغمٌ
    ↓ → علاقة تماهٍ علاقة تماثل← ↓ ↓
    نقشٌ← مستعار سموٌّ وطهارة إطراب
    تنفتح مكوّنات الصورة كما رقمت سلفاً على أفعال (الذات المتكلّمة في النص) فنجد (أرى / أجعل / أبذل/ أرسل) ممّا يؤكّد حضورها في تشكيل عوالم الصورة, ويمنح حرف العطف (الواو) حالاً من المماثلة والمماهاة بين الأفعال, وكأنّها حدثٌ واحدٌ, وهو ما تكشف عنه بنيتا الصور في الأبيات من علاقتي مماثلة ومماهاة. ومن هنا بدت الوظيفة تعبيريّة ترسم لك موقف الذات من (المرأة المحبوبة), وهو موقفُ تقديس وإجلال وسعي إلى الإطراب وإلى تخليد الحبّ حتّى لا ينقطع أثره من الوجود.
    تتماثل طريقة الإبداع في (التعبير عن الموقف) من العالم في هذه الصورة مع طريقته في التعبير عن (موقف) آخر فتغدو جزئيّات أشتات تتكامل حتّى تضحي رؤية للذات المتكلّمة في النص من العالم والوجود. قال:
    وأرخيتُ الأعنّة حيث تمضي ملذاتي وأعليت الشراعا[41]
    تتجلّى (الملذّات) هنا في هيئة مسافر يمتطي الرحلة وسائل شتّى, وتبدو (الذات المتكلّمة) ملاّحاً يقود تلك الملذّات إلى حيث تبغي وتشتهي. وتتشكّل الصورة في بنية الاستعارة المكنيّة فتمنح علاقة تماهٍ بين الدوالّ. وهي تجلو موقفاً للمتكلّم يلج بوظيفتها في دائرة الوظيفة التعبيريّة, وهنا يبرز موقف (أبيقوريّ) تتراءى فيه الذات منساحة في بقاع الأرض بحراً وبرّاً لتمارس لذتها ولا فرق.
    ولنا ـ قبل أن نختم هذه الفقرة من هذا الحديث ـ أن نضع بعض فروق بين هذه الوظائف لئلا يظنُّ ظانٌّ أنّها واحدة في الجوهر. وأقول في إجمال إنّ الوظيفة النفسيّة للصورة تجلو غامضاً كامناً في النفس هو أقرب ما يكون إلى الداء, ومن هنا وجبت الاستفادةُ ـ لجلائها ـ من معطياتٍ من علم النفس. أمّا الوظيفة الانفعاليّة فتثير في المتلقّي انفعالاً يستعيد به خبرةً في الحياة اختزنها ثمّ استثارتها فيه الصورة فاستجاب لها باستدعاء ما أشبهها, لكنّ الغاية من الوظيفة التعبيريّة فجلاءُ موقف المتكلّم من العالم ورؤيته له. ومن هنا يشيع في البنية اللغويّة التي تتشكّل منها الصورة ذات الوظيفة التعبيريّة ضمير المتكلّم دون سواها من الوظيفتين الأخريين.

    (6)
    وإنّ تشكيل الصورة في نصوص الديوان بنيةً ووظيفةً وما إلى ذلك متراسلٌ مع منظور الإبداع لمفهوم الشعر كما جلاه هذا الحديث من قبلُ, وليست ببعيدةٍ عنه طبيعة البثّ الشعريّ في قصائده من حيث هيمنة ضمير المتكلّم عليه, ووسمه بِسِمَةِ النجوى, ومن حيث استرجاعَ الماضي ووصفه وصفاً أقرب إلى ما يكون (الغناء) منه إلى ( السرد), يدلّك على ذلك شيوع الصورة الاستعاريّة فيه دون الصورة الكنائيّة, ولهذا دلالته عند من وقفوا على ما ذكره جاكوبسون في هذا المجال.
    هيمنة ضمير المتكلّم في البث الشعريّ أفضت إلى أن يكون المتكلّم في النص محور القول. فهو إمّا يناجي محبوبةً واصفاً ما بينهما في زمانٍ حاضر, أو يسترجعها بضمير الغائب ليصف لك ما كان منها ومنه في زمانٍ قديم.
    ولقد عمدت إلى اختيار وحدتين دلاليّتين من وحدات الديوان الأربع وهما (الوجدانيّات) و(الطبيعيّات) لأستقرئ شبكة الضمائر في قصائدهما مكتفياً بالجزء للدلالة على الكلّ. وقد تبيّنَ من خلال الإحصاء أنّ عدد الضمائر الدالّة على المتكلّم في وحدة (الوجدانيّات) هو (468 ضميراً) بنسبة(56.9%) من عدد الضمائر في هذه الوحدة كاملةً, وأنّ عدد الضمائر الدالّة على المخاطب فيها هو (205 ضمائر) بنسبة (24,9%), وعدد الضمائر الدالّة على الغائب هو (15ضميراً) بنسبة (18.2%), ممّا يشي بهيمنة الوظيفة التعبيريّة على عمليّة البثّ الشعريّ في هذه الوحدة.
    أمّا في وحدة (الطبيعيّات) فقد بلغ عدد ضمائر المتكلّم (96 ضميراً) بنسبة (80%), وهناك ضمائر للغائب لكنّها تعود على المتكلّم في بنية التّجريد، وبلغ عددها (24ضميراً) بنسبة(20%). فإذا قمت معي بعملية جمع ٍ لضمائر التكلّم (الصريحة) في الوحدتين , وتأمّلتَ عددها ـ بلغ عددها (564 ضميراً) ـ وأضفتَ إليها عددَ ضمائر الغائب الدالّة على المتكلّم ـ بلغ عددها (24) ـ صار عدد المرّات التي حضر فيها المتكلّم في هاتين الوحدتين (588 مرّةً) بنسبة (62.4%). وهي نسبةٌ كبيرة من حيث العدد ومرّات التكرار والشيوع في النص. وإنّها لمتراسلةٌ مع منظور مفهوم الشعر في الديوان.أَوَلَمْ نَرَه يتركّز على مقولة (الشعرُ جلاءٌ لصورة الذات) ؟ وهو ما ترك آثاره على طرائق الإبداع في تشكيل النص.
    (7)
    ولعلّك تتكشّف ذلك من خلال طرائقه في بنائه القصيدة وكيفيّة تشكُّلها في الديوان. وسأصف لك بعض شيء من هذا لأنّ كثيره يضيق به هذا المقام. ولعلّه تجدر الإشارة قبلُ إلى ما كان يقوله الأستاذ العقّاد عن انعدام الوحدة العضويّة في قصيدة شعراء الإحيائيّين, وتحقّقها في أشعار كثيرٍ من شعراء الوجدان التالين على أولئك في الزمان. وأحسب أنّ لهذه الإشارة صلةً بحديثنا عن موقع شعر البار بين الإحيائيّة والتجديد, أو الوقوف منهما في منزلةٍ بين المنزلتين كما ذهب إلى ذلك الأستاذان الفاضلان الدكتور جبر والدكتور العمرانيّ. وهي مسألةٌ لن أطيل القول فيها, وأولى بالذكر منها وصف طرائق بناء القصيدة في شعر البار. وسأقف معك على واحدة من قصائده لبيان ذلك, وحسبك هذا مني, فقد طال هذا الحديث وتخطّى حدوده المرسومة. قال:
    دمـي يوم بُعدك أضحـى مراقا وقـلبـي الـذي ظـلّ يهفو اشتياقا
    تُطـيـف بـه نزعـات الحنين وتـوسـعـه الـذكريـات احتراقا
    تُجرّعـه غـصصـاً لا تـطاق وتسقيـه كـأس العذاب الـدهـاقا[42]
    يبدأ البثّ الشعريّ بضمير المتكلّم, يقابله ضمير المخاطبة (دمي...بعدك), لكنّ (الآخر) الذي يمثّله ضمير المخاطبة يستحيل إلى (أذنٍ) تتلقّط كلّ ما يقول المتكلّم الذي يتراءى صوتاً يبثُّ شكواه ويسكب نجواه في أذن تلك المخاطبة، فتنطلق الذات في هذا المقطع ـ وهو أوّل مقاطع القصيدة ـ من لحظة الألم ولا تبارحها, فنجد (الدم المراق / القلب المشتاق / نزعات الحنين / طوافة الذكريات المحرقة / الغصص التي يتجرّعها القلب / كأس العذاب المترع الممتلئ). وكلُّها نظائر دلاليّة تمنح منظوراً دلاليّاً واحداً هو (الألم), وهو الذي يكتنف حاضر الذات فتكابده دون أن يكون للآخر أدنى إحساس به.
    في المقطع الثاني تنكص الذات عن الحاضر إلى الماضي:
    أراكِ ولم أر غير الخيال فاذكر ساع الهنا والعناقا
    فالرؤية (حاضرٌ) يفضي إلى تذكّر حدثٍ تمّ في زمنٍ ماضٍ (ساع الهنا والعناقا), ومن هنا هيمنت لحظة الالتذاذ على دوالّ المقطع الثاني, فنجد ( مجئ المحبوبة ينعش القلب / تحدّي الآخرين امتثالا لرغبات القلب ـ تسترقين خطاك استراقا ـ / الشوق ـ تهوين بين ذراعي حبيب ـ / ممارسة اللذة ـ قبلات الهوى ـ / سماع حديث الغرام ). وهو التذاذٌ حدث في زمانٍ ماضٍ وخلا منه الحاضر مما يزيد من لذعة (الألم) وعمق الإحساس به.
    وهنا تتجلّى بنيتان لغويّتان متقابلتان تطرحان نواتج دلاليّة متقابلة, فنجد (الحاضر) في مواجهة (الماضي), ونجد (الألم) في مقابلة (اللذّة), ونجد (النجوى) في موازاة (السرد)... إلى آخر ما هنالك من ثنائيّات متضادّة يتنامى بها بناء النصّ لكنّه لا يكتمل, فجاء المقطع الثالث ليستقيم له الكيان. وفيه يُفتتح القول بصيغة النداء: (فيا بهجة الروح), ثمَّ تتوالى أساليب إنشائيّة كالأمر (قولي), والاستفهام (متى يعود الهنا, ومتى نتلاقى؟), والقسم مشفوعاً بالاستفهام (بالله كيف وجدت الفراقا؟) . فهيمنت الوظيفة الانتباهيّة لتحقيق نوعٍ من التواصل مع الآخر ـ المخاطبة ـ لكنّه تواصلٌ يشوبه نوعٌ من الشكّ من حيث يجهل (المتكلّم) وقع الفراق على المخاطبة , ومن هنا تنبثق ثنائيّة (اليقين والشكّ) . فالمتكلّم على يقينٍ من مرارة الفراق ولكن كيف وجدت المحبوبة ذلك الفراق؟ من هنا يكون الاستفهام لإثارة الانتباه والكشف عن المجهول, ومع ذلك فهو لا يحظى بجواب, فانبعث الألم, وبه تُختتم القصيدة كما اُفتتحت به. وعليه يكون (الألم) من النأي والبين محور القصيدة من أوّلها حتّى آخرها, وأسهم انتظام وحداتها في نسقٍ دلاليّ واحد في وسمها بالتناسق والانسجام, وحقّق لها وحدةً عضويّةً ظاهرة.
    (8)
    من ذلك كلّه نخلص إلى أنّ خصائص الأسلوب في شعر البار كما جلاها متنه الشعريّ الموسوم بـ(من أغاني الوادي) أوثقُ صلةً بشعر الشعراء الذين جدّدوا الشعر العربيّ في العصر الحديث مفردةً وتركيباً, نسيجاً وأداءً, بنيةً إيقاعيّةً مسموعة وبنيةً تخييليّةً مرئيّة, وصدرت طرائقه في تشكيل لغة النص عن منظورٍ لمفهوم الشعر يتماهى مع منظور أولئك الشعراء المجدّدين لمفهوم الشعر ممّا يباعد بينه وبين تصنيفه في دائرة الإحيائيّين أيّاً كان المقصود بمفهوم ( الإحيائيّة), أكان مصطلحاً تاريخيّاً تُحدّد به فترةٌ من الزمن تبدأ بعام وتنتهي بعام ؟ أم كان مصطلحاً نقديّاً يُميَّز فيه بين منزعٍ جماليٍّ ومنزعٍ جماليٍّ آخر؟
    ولجلاء غموض القول وإضاءة عتمته أقول: إنّ (الإحيائيّة) مصطلحٌ اندغم فيه التاريخيّ بالجماليّ, فهو من جهة التاريخ متصلٌ بفترة البعث الأدبي حيث عاد شعراء القرن التاسع عشر إلى عصور النضج الأدبيّ عند العرب وتمثّلوا صور إبداعها وترسّموا خطاها فمنحوا القصيدة العربيّة نفحةً من جلالٍ كانت قد تلاشت عنها في عصور الانحطاط, ووسموها بعبيرٍ من جمالٍ صبغوا به ذائقة أجيال من شداة الشعر ومتذوّقيه ناهيك بمنتجيه من الشعراء. وفي هذا ما يقرّبنا من مفهوم (الجماليّ) في مصطلح (الإحيائيّة) من حيث اتسام الإبداع في ذلك العصر بخصائص أسلوبيّة هي أدخل في دائرة (اللسان) منها في دائرة (الكلام), يتجلّى ذلك على مستوى الدالّ مفرداً إنْ من حيث المعجم وإنْ من حيث الحقل الدلاليّ, وعلى مستوى تركيب الكلام, ناهيك بمستوى (المسموع) و(المرئيّ), وسمة (الرؤية) في الشعر. ومن هنا كان الانزياح عن (الإحيائيّة) انزياحاً عن طرائق الإبداع في التعامل مع اللغة.. ولقد يكون الإيغال فيه عظيماً فيتجلّى أثره ظاهراً كما نجد عند أديبٍ مثل جبران أو شاعرٍ مثل إلياس أبي شبكة أو إبراهيم ناجي, وقد يكون الإيغال فيه برفقٍ وعلى مهلٍ ملحوظ فيتجلّى أثره على شيء من الخفاء والحياء, لكنّه موجودٌ. وهنا يصنع النصّ كيانه, ويحقّق وجوده بعيداً عن خصائص "الإحيائيّة" من حيث هي, ليغدو وجوداً مستقلاً بخصائصَ وسماتٍ, قل عنها إنّها تجديديّة فلك ذلك, وصفها بالابتداعيّة فهذا من حقّك, وسمِّها بالرومانسيّة من حيث إنّ الرومانسيّة فترةٌ في الزمان تلت لإحيائيّة في الوجود فأنت وذاك, لكنّ الذي لا ينبغي أن يقال هنا هو أن نحشر الإبداع المتحرّر من ربقة الإحيائيّة وأغلالها فيها, ونصرّ على ذلك فهذا ظلمٌ عظيم له, وحرصٌ منّا على أن نحرم كلَّ ذي حقٍّ من حقَّه.
    هذا أمرٌ, وأمرٌ آخر أراه أجدر بالعرض في هذا المقام لأهمّيته, وهو أنّ إيغال مناهج الدرس الأدبيّ الحديث في النظر إلى النص الشعريّ على أنّه لغةٌ متشكّلة وفق نظامٍ علاميّ خاص يشي بطرائق الإبداع في توظيف الظاهرة اللغويّة وكلّ موادّ الأداء في الكلام لجلاء صور الشعور ومغيّبات الفكر, يباعد بيننا وبين تصنيف الشعراء في دوائر مدرسيّة أو مربّعات تعليميّة, وتلزمنا بإصدار الأحكام على هذا الشاعر أو ذاك, وتحرّرنا من الوقوع في أسرها لننساح مع لغة النص إلى حيث تشاء لنا ذلك, ويبلغ بنا الاستغراق في تأمّلها حدَّ الاتحاد بها، ممّا يمكّننا من استكناه أسرارها وتكشّف مظانّ الجمال فيها. وهنا يستوي الحال والموقف في أن يكون النص قديماً قادماً من أعماق الزمن البعيد, أو جديداً حديث عهدٍ بالخلق والإبداع.
    فهل ترانا بعد هذا في حاجةٍ إلى الأخذ بمثل هذه المصطلحات (كلاسيكيّة /رومانسيّة /واقعيّة...) لنصنّف الشعراء في أطرها المتنوّعة المتعدّدة؟.
    المكلاّ في 1 /3 /2004م


    جريدة المصادر والمراجع:
    المصادر:
    ــ الشّاعر حسين بن محمّد البار: الأعمال الشّعريّة الكاملة ، ط 1، دار حضرموت للدراسات والنشر وآخرين، عام 2004م.
    المراجع:
    ـ البار، د. عبد الله حسين: الينبوع المتفجّر، دراسات مختارة في شعر الشّاعر حسين محمّد البار، جمع وإعداد، ط 1، مركز عبادي للدّراسات والنّشر، عام 2004م.
    ـ البار، د. عبد الله حسين: (الصّورة الفنّيّة في القصيدة الجاهليّة) ط1، دار حضرموت للدراسات والنشر، عام 2006م.
    ـ بوريس اوسبنسكي: شعريّة التأليف, ترجمة سعيد الغانميّ وناصر حلاّوي, د/ط, المجلس الأعلى للثقافة, عام 1999م.
    ـ تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبيّ, ترجمة الحسين سبحان وفؤاد صفا, ضمن كتاب "طرائق تحليل السرد الأدبيّ", منشورات اتحاد كتّاب المغرب, سلسلة ملفّات, 1992/1, ط1, الرباط, 1992م.
    ـ جاكوبسون، رومان: قضايا الشعرية، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، ط1، دار توبقال، المغرب، عام 1988م.
    ـ جبر، د. عبد المطّلب: تطوّر الصّورة الفنّيّة في شعر اليمن الحديث 1918م/ 1972م. رسالة دكتوراه مخطوطة.
    ـ عبد اللطيف، د.محمّد حماسة: البناء العَروضيّ للقصيدة العربيّة, ط1, دار الشروق القاهرة, 1999م.
    ـ عبد المطلب، د/ محمد: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، ط1، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة،عام 1995م.
    ـ عبد المطلب، د/ محمد: مناورات الشعريّة, ط1, دار الشروق, 1996م.
    ـ عبد المطلب، د/ محمد: كتاب الشعر, ط1, الشركة المصريّة العالميّة للنشر, 2002م.
    ـ العمرانيّ، د. عبد الرّحمن الاتجاه الرومانسيّ في الشعر اليمنيّ ), ط1، عن مركز عبادي للدراسات والنشر، عام 2..2م.
    ـ عكّام، د. فهد: القصيدة البحريّة بين الرمزيّة والغنائيّة، مجلّة كلّيّة الآداب ، جامعة صنعاء عدد 24 عام 1994م.
    ـ عيّاد ، د/ شكري : مبادئ علم الأسلوب العربيّ ، ط1 ، دار انترناشونال، عام 1988م.
    ـ الغذّامي، د/ عبد الله: تشريح النص، ط1، دار الطليعة، بيروت، عام 1987م.
    ـ فليت ، هنريش : البلاغة والأسلوبيّة ، ترجمة وتعليق د/ محمّد العمريّ ، ط2 ، أفريقيا الشرق ، 1999م.






    الحواشي:


    [1] هو الشّاعر حسين بن محمّد البار. ولد في قرية القُرَيْن بوادي دوعن محافظة حضرموت حوالي عام1337هـ الموافق 1918م. تلقّى تعليمه الأوّل على يد والده الذي كان له الفضل الكبير في مدّه بالمعارف والعلوم. عمل بالمحاماة ثمّ بالتّدريس في بعض المدارس الخاصّة ثمّ في أوّل مدرسةٍ حكوميّةٍ بالرُّباط، وهي إحدى قرى وادي دوعن. انتقل إلى المكلاّ فعمل رئيساً لتحرير صحيفة الأخبار الأسبوعيّة عام 1952م، ثمّ عمل في صحيفة الجنوب العربيّ عام 1954م. عاد إلى المكلاّ وأقام بها، وفيها أخرج للنّاس صحيفته الموسومة بـ(الرّائد) عام 1960م. أصدر البار ديوانه الأوّل الموسوم بـ (من أغاني الوادي) عام 1954م. وفي عام 2004م صدرت أعماله الكاملة. توفِّيَ الشّاعر البار في اليوم الخامس من شهر مارس عام 1965م.

    [2] تودوروف ، تزفيطان : مقولات السرد الأدبيّ ، ضمن كتاب " طرائق تحليل السرد الأدبيّ" ، ص39 منشورات اتحاد كتّاب المغرب سلسلة ملفات 1992م/1 ، الرباط ، ط1، 1992م.


    [3] باوزير، سعيد عوض: الينبوع المتفجّر، دراسات مختارة في شعر الشّاعر حسين محمّد البار، جمع وإعداد د. عبد الله حسين البار، ص 16، ط 1، مركز عبادي للدّراسات والنّشر، عام 2004م.

    [4] نفسه: ص 15.

    [5] انظر ص 54 منه.

    [6] نفسه: ص 57.

    [7] نفسه: ص 55.

    [8] العمرانيّ، د. عبد الرّحمن : شعراء الرّومنسيّة في اليمن، ص 54.

    [9] أقصد ب(الإبداع) هنا امتن الشّعريّ الموسوم بـ(من أغاني الوادي).

    [10] الأعمال الكاملة للشّاعر حسين بن محمّد البار، ط 1، دار حضرموت للدراسات والنشر وآخرين، عام 2004م، ص131.

    [11] نفسه: ص 131.

    [12] نفسه: ص 131.

    [13] نفسه: ص 163.

    [14] نفسه: ص 115.

    [15] نفسه: ص 136.

    [16] نفسه: ص 33.

    [17] نفسه: ص 107

    [18] نفسه: ص 30.

    [19] نفسه: ص 50.

    [20] نفسه: ص 75.

    [21] الأعمال الكاملة: مرجع سابق، ص 33.

    [22] نفسه: ص 18.

    [23] نفسه: ص 48.

    [24] نفسه: ص 20.

    [25] نفسه: ص 20.

    [26] نفسه: ص 39-41.

    [27] نفسه: راجع القصائد في الصفحات 91-93، 106-108، 37-38، 56-57.

    [28] راجع في هذا كتاب الباحث الموسوم بـ (الصّورة الفنّيّة في القصيدة الجاهليّة) ط1، دار حضرموت للدراسات والنشر، عام 2006م.

    [29] الأعمال الكاملة للشّاعر حسين محمّد البار، مرجع سابق: ص 37.

    [30] نفسه: ص 35.

    [31] نفسه: ص 111.

    [32] نفسه: ص 84.

    [33] نفسه: ص 86.

    [34] الينبوع المتفجّر، مرجع سابق: ص 119.

    [35] نفسه: ص120.

    [36] الأعمال الكاملة للشّاعر حسين بن محمد البار، مرجع سابق: ص 75-76.

    [37] نفسه: ص 77.

    [38] نفسه: ص 78.

    [39] نفسه: ص 106.

    [40] نفسه: ص 23.

    [41] نفسه: ص 27.

    [42] نفسه: ص 19.


    auv hgfhv fdk Hp;hl hg]~hvsdk ,lk',r hg;ghl hgfhv hg]~hvsdk hg;ghl fdk auv

    التعديل الأخير تم بواسطة مبخوت الوصابي ; 06-26-2012 الساعة 03:44 PM
    الكلمة مسؤولية ..

  2. #2
    المدير العام
    تاريخ التسجيل
    May 2012
    الدولة
    اليمن
    المشاركات
    684
    معدل تقييم المستوى
    83
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    فارس أحلام and كشكول معجب بهذا.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    مدرس متميز
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    المشاركات
    13
    معدل تقييم المستوى
    0
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    عبد الصمد يوسف معجب بهذا.

  4. #4
    عضو جديد
    تاريخ التسجيل
    Sep 2013
    العمر
    34
    المشاركات
    1
    معدل تقييم المستوى
    0
    - الأسلوب العلمي المتأدب :
    وهذا النوع يجمع بين خصائص الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي ، لتخفيف ما في الأسلوب العلمي من جفاف ، ونقل الحقائق مصحوبة بالإمتاع والتأثير مع الاهتمام بالدقة والوضوح . ونجد ذلك غالبا في الدراسات الإنسانية التي لا تخلو عناصر الأسلوب من عاطفة الكاتب وميوله الوجدانية.
    عبد الصمد يوسف معجب بهذا.
    WINSLET

 

 

المواضيع المتشابهه

  1. 2-2 أقسام الكلام
    بواسطة مبخوت الوصابي في المنتدى واحة البلاغة و النقد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-06-2012, 05:46 PM
  2. 1-2أقسام الكلام ..
    بواسطة مبخوت الوصابي في المنتدى واحة البلاغة و النقد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-06-2012, 03:50 PM
  3. الكلام درر ::
    بواسطة عبد الصمد يوسف في المنتدى منتدى الترفيه و التسلية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-03-2012, 01:50 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
توسيع/تقليص
[click to hide]

Content goes here.