أفضل خطبة جمعة في حياتي

كتب / أحمد عبد الحميد

(ناشط سياسي مصري ، ماجيستير أنظمة مدمجة و إدارة أعمال --جامعة لوجانو بسويسرا،باحث نانو إلكترونيات بمركز الأبحاث إيمك و مدرس مساعد بجامعة بروكسل ببلجيكا)


لا يعرف كثيرا من العربية, تركي, شاب على مشارف الثلاثين, متعلم كمن يخطب فيهم… على الأقل إجتاز الكل البكالوريوس. لم تكن خطبته طويلة, وأيضا لم ينتظر الجلوس خطبة طويلة, لأنهم في يوم عمل في هذه البلدة الأوروبية!

بعد أن حمد الله و أثنى عليه, ذكَّر كل الجلوس بأنهم أمضوا على الأقل خمسة أعوام في تعليم نظامي حتى يصلوا لأعمالهم التي يعملونها, ذكرهم بأنهم يجيدون أعمالهم و يقرأون العديد من الأوراق فيها… ولكن كم يقرأون من الدين؟ وكأن زلزال صغير أصاب أجسادهم. أكمل حديثه و ذكر الشافعي, الأحناف و المالكية و الحنابلة… بعربية صحيحة, و كأن كل الرجال الجلوس العرب أمام هذا التركي أطفال جهال… أيعرفهم و نحن لا؟ من أولى؟ من يتحدث العربية أم من يجهلها؟!

ذكرهم, بأنهم يخططون لحياتهم, لمستقبلهم المهني, لميعاد الزواج, لمدارس الأولاد, لتدريب كذا أو كذا ليزيد من فرصهم في المستقبل… ولكن كم منهم يخطط فعلا لقراءة دينية مبنية على “منهج”؟ منهج! قال أنك حتى تصبح مدرس تدرس التربية وكي تكون مهندسا تدرس الهندسة… وكذا كي تعرف دينك… الطريق إلى ربك… ألا يجب عليك أن يكون لك أيضا “منهج”؟ ما الفرق إذا بينك –يا متعلم يا من تعرف القراءة- ومن يجهل كل شئ كلية…. لا بد أن يكون لك منهج لتدارس الدين تسير عليه… حتى إذا طلبك الله… تموت في الطريق إليه.

دعا الله أن “يهدينا الصراط المستقيم”, ولكن شيئا ما في هذا الجملة قد تغير في نفس الجميع, شيئا صغيرا أضاف إليها رعشة كلما سمعتها منذ تلك اللحظة.

وأنهى الرجل الخطبة.

أتعرف, بعد الخطبة و كأن الجميع تغير حاله, لم تستمر الخطبة أكثر من عشر دقائق, ولكن كل شئ تغير, لأن الرجل كان صادقا في كل حرف نطق به. يومها تذكرت أني أسرفت في التعليم في الثلاثة أعوام التي سبقت ذلك التاريخ و أهملت علما آخر… ربما ضاع الطريق؟ ربما آن الأوان… أن أهرب… أفر إلى الله؟ ولكن كيف؟ ما هو “الطريق” أو “المنهج”؟ ما هو الحد الكافي من قراءة القرآن؟ تعلمه؟ حفظه؟ تدارس معانيه؟ ما الكافي من الفقه؟ اللغة؟ التجويد؟ الحديث و علومه؟ بالكاد وقتها كنت أعرف شيئا… حتى ما حفظت في صغري بدأ في التساقط كأوراق الخريف… يا الله… أرى نفسي وحيدا وأنا كلي إليك… أين الطريق؟!

انتهى المقال.

لحظة... قليل من التخبط بين بضعة كتب… و وفقني الله لرأي الإمام أبو حامد الغزالي في إجابة السؤال: ما القدر الكافي؟ و ما هي الأولويات؟ وكان ذلك كافيا بالنسبة إلي… ألخصه لك إن شئت هنا, و إن شئت توقف عن القراءة.

خلاصة رأي الغزالي:

يقسم العلم عموما إلى ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية, وما هو محمود وما هو مذموم, ثم يقسم العلوم الشرعية إلى أربعة ضروب (أقسام): أصول و فروع و مقدمات و متممات. و يتبحر الإنسان فيها على ثلاثة أوجه: الاقتصار و الاقتصاد و الاستقصاء.

ومر عليها كلها بالتفصيل في إحياء علوم الدين, ولكني أحب أن أركز على هذه الصفحات (ص: 53, 54, 23-27) و اقتطعت منها لك…

التفصيل باختصار للأربعة ضروب و مدى التبحر فيها وترتيبها بالأهمية:

الضرب الأول: الأصول: وهي أربعة: القرآن, السنة, إجماع الأمة وآثار الصحابة, الإجماع أصل من حيث أنه يدل على السنة.
الضرب الثاني: الفروع: وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه بها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ .. وهو ضربان: الأول: يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه و المتكفل به من الفقهاء وهم علماء الدنيا. الثاني: ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلوب و أخلاقه المحمودة و المذمومة و ما هو مرضي عند الله تعالى, وما هو مكروه… ومنه العلم, بما يترشح من القلب على الجوارح في عبادتها وعاداتها.
الضرب الثالث: المقدمات: وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة و النحو, فإنهما آلة لعلم الكتاب و السنة, (وليست اللغة و النحو من العلوم الشرعية أنفسهما). ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضروريا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا.
الضرب الرابع: المتممات: وذلك في علم القرآن, فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات و مخارج الحروف و إلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير , فإن اعتماده أيضا على النقل, إذ اللغة بمجردها لا تستقل به و إلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ و المنسوخ و العام و الخاص و النص و الظاهر. و كيفية استعمال البعض مع البعض وهو العلم الذي يسمى “أصول الفقه”. و أما المتممات في الآثار و الأخبار فالعلم بالرجال و أسمائهم وأنسابهم و أسماء الصحابة و صفاتهم, و العلم بالعدالة في الرواة. و العلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي, و العلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به, فهذه العلوم الشرعية و كلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات.

كيف البداية؟

يرشح أبو حامد الغزالي: ابتدئ بكتاب الله تعالى, ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم بعلم التفسير و سائر علوم القرآن من علم الناسخ و المنسوخ و المفصول و الموصول و المحكم و المتشابه و كذلك في السنة, ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون خلاف, ثم بأصول الفقه, و هكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر…
ما درجات التبحر في العلم؟

لا تستغرق عمرك كله في فن واحد, فإن العلم كثير و الوقت قصير. فالعلوم التي تستخدم كآلات لفهم غيرها, وكل مطلوب لغيره لا ينبغي أن تستكثر منه و تنسى الهدف الرئيسي, وعليه فهو ينصح بثلاث درجات:
الاقتصار وهو أقل الزاد, الاقتصاد وهو التبحر القليل, و الاستقصاء وهو الاستزادة ما أعانك العمر و الوقت… وفي التالي المثل:

شائع علم اللغة: ما تفهم من كلام العرب و تنطق به(العربية), ومن غريبه على غريب القرآن و الحديث ودع التعمق فيه. و النحو: ما يتعلق بالكتاب و السنة
التفسير: الاقتصار في التفسير هو ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار. و الاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن, وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد له إلى انتهاء العمر.
الحديث: الاقتصار: تحصيل ما في الصحيحين, و أما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك, ولك أن تعول على كتبهم, ولي يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة. الاقتصاد: فيه أن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة. أما الاستقصاء: ما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف و القوي و الصحيح… .
الفقه: الاقتصار: ما يحويه مختصر المزني(**). الاقتصاد: ما يبلغ ثلاثة أمثاله ككتابه الوسيط من المذهب…

**تجاوز عن ترشيح الكتاب هذا بعينه. لأننا سنأخذ من الغزالي فقط “فكره” وليس ترشيحاته, و سبب ذلك وجود جدل في مواضيع كثيرة متعلقة بالإمام لا نريد أن نكون جزءا منها.
ما الخطوة التالية؟

أحسب أنك أحد أبطال ماراثون رمضان المعتاد, تختم القرآن ربما أكثر من ثلاثة مرات. ظني أيضا أنك –ربما- الآن ستغير الاستراتيجية المعتادة لما هو أكثر… أن تضع لفسك منهجا تسير عليه, و تأمل في تحصيله في عمرك ما أطال الله في عمرك… شخصيا, قررت الاقتصاد في التفسير و السنة و الاقتصار في غيرهما كخطوة أولى.

ولكن ما هي الكتب التي ستبدأ بها؟ عند السلفيين و الإخوان و حتى الصوفية وسائر المناهج الإسلامية خارطة للمنهج يحددها عدد من الكتب للتدارس ربما تتقاطع أو تتنافر فيما بينها. ربما أكتب لك قائمة بالكتب و ترتيبها, ولكن المشكلة التي ستواجهك أني سأوجهك تجاه توجه فكري معين –أنا اخترته لنفسي- ربما لن يناسبك. و من جهة أخرى, فأظن أنك في حال أفضل مني, فعلى ناصية الشارع الذي تسكن فيه أحد الأئمة الذين تحبهم, و أظنك ستستشير آخر في الجهة الأخر حتى تحفظ اتزان رأسك! و الأهم من ذلك أن الطريق طريقك… أنت… و أنت وحدك الذي ستقرر إن كنت ستسير أم لا, وكيف ستسير؟ وعليك بعض المجهود… و الأولى أن تتحمل المجهود الآن!

ولكن إن كنت ناصحا فقراءة تفسير يكون ثلاثة أضعاف القرآن حجما (اسأل من تثق فيه بأن يرشح لك أحد التفاسير) ومثل ذلك للأحاديث التي اتفق عليها الشيخان و كتاب للعقيدة (بدأت بهذه عقيدتي لعائض القرني –مع بعض التحفظات القليلة- و من ثم ستعرف كيف تسير) كل ذلك خطوة أولى جيدة. بعدها أظن أنك ستعرف الطريق وحدك…

أتعرف أقصى آية تبكيني و تخيفني في الدنيا… حتى مع علمي أنها قيلت في غير المسلمين… الآية:

“قل هل ننبؤكم بالاخسرين اعمالا , الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا“

أتعرف, منذ قررت أن أغير علاقتي بالقرآن لأن تكون كما تلقاه الصحابة يوم سمعوه من محمد صلى الله عليه و سلم… لم أتجاوز “اهدنا الصراط المستقيم”, ولم أتم في العقيدة شروط لا إله إلا الله السبعة.

أين أنت؟

حان وقت الفرار….

إلى الله.


المصدر: منتديات يل - من قسم: طاولة حوار


Htqg o'fm [lum td pdhjd [lum pdhjd