بقلم : عمر شبلي
في القاموس المحيط لـمجد الدين الفيروزآبادي: ثقـُف وثقِفَ ثقافةً : صار حاذقاً خفيفاً فطِناً...وثقـَّفه تثقيفاً سوّاهُ وثاقفه فثقفـََه كـ نصَرَه فغلبه في الحِذق. وامرأةٌ ثـَقافٌ كسَحاب فطِنةٌ، وثِقاف ما تسوّى به الرماح . تقول السيدة عائشة بنت أبي بكر واصفة أباها: "وأقام أَوَدَه بثِقافهِ" أي سوّى نفسه وشذّبها من الأخطاء.
أما الثقافة باعتبارها مفهوماً عصرياً فلها أكثر من تعريف ، على الرغم من تقارب المعاني التي تناولها المثقفون والأكاديميون في تعريف الثقافة، حيث تصبح في النهاية مجموع التراث الإنساني الذي أنتجه العقل في مجتمع له تاريخ واحد ولغة واحدة وروابط مشتركة، ونضال مشترك، وظروف حياتية مشتركة.
إن الثقافة " هي المخزون الحي في الذاكرة كمركب كليّ، ونموّ تراكميّ مكوّن من محصلة العلوم والمعارف والأفكار والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد والمدركات الذهنية والحسية والموروثات التاريخية واللغوية والبيئية التي تصوغ فكر الإنسان، وتمنحه الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تصوغ سلوكه العملي في الحياة"
في نهاية القرن التاسع عشر، وفي كتابه المشهور" الثقافة البدائية" يعرِّف إدوارد تايلور الثقافة بقوله: "هي كلٌّ مركّبٌ يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعُرف.. وكل ما يمكن أن يكتسبه الإنسان من إمكانيات وعادات على اعتبار أنه عضوٌ في مجتمع".
أما المفكر محمد عابد الجابري فيرى أن الثقافة هي :" ذلك المركَّب المتجانس الذكريات والتطورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحفظ لجماعة بشرية تشكّل أمة .. أو ما في معناها بهويتها الحضارية.. في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميكيتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء".
الدكتور طلال عتريس يرى أن الثقافة هي محصلة التفاعل بين ثلاث علاقات مع الله(العقيدة والذات)، ومع الآخر(المجتمع والطبقة)، ومع الذات( الرغبات والغرائز والحاجات).
ويرى الدكتور نبيل علي أنها ما يبقى بعد زوال كل شيء، والمعلومات : هي المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه، والثقافة تصنع الموارد البشرية كما هي صنيعتها.
أما المفكر المصري " محمود أمين العالم" فيقول: " الثقافة ــ في تقديري ــ لا تقتصر دلالتها على المعارف والأنشطة الأدبية والفنية والعلمية والعقلية والروحيةوالعقائدية والقيمية الأخلاقية، وإنما تمتد وتتسع لمختلف الممارسات والتجليات العملية والسلوكية والحياتية ــ الفردية منها والاجتماعية ــ فضلاً عن أشكال الحكم وأنماط الإنتاج ومضامين المواقف والممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية إلى غير ذلك". وكان هدف المفكر المصري كما يعلن هو ربط الجانب المعنوي المعرفي بالجانب المادي العملي للحياة الإنسانية ثقافياً.
ويرى "بيتر فارب" أن الثقافة هي "المخطط الأساسي الذي يضعه المجتمع للسلوك الإنساني موضِّحاً ما يجب عمله، وما يحسن عمله، وما يمكن عمله، وما يجب ألاّ يُعمَل".
الدكتور إحسان عباس يرى أن الثقافة تنحصر في ثلاثة أصناف:
1 ــ "ثقافات إنسانية عامة مثل الثقافة التكنولوجية، والثقافة العلمية المؤسسة على العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وبيولوجية
2 ــ ثقافات شبه قومية مؤسسة على العلوم الإنسانية كعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنتربولوجية.
3 ثقافات ذات صبغة قومية غالبة ، وتلك هي الرموز الكبرى المتصلة ــ على محمل الاستمرار من الماضي إلى الحاضر ــ بكل ما صاحبها من تطور وتراكم وتغير وتشكل، وما يجب أن تمرّ به ــ ذهاباً نحو المستقبل ــ في قابليتها للتجدد وانفتاحها على الثقافات الأخرى، وقدرتها على الهضم والتمثل، ورغبتها في التبلور والتكيف".
اليونسكو اعتبرت الثقافة" جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب، وطرق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان والقيم والتقاليد والمعتقدات"
وفي رأيي : إنّ الثقافة هي شخصية الأمة ومنتجة حضارتها، وهي النتاج الفكري بكل تفرعاته الفردية والجمعية سواء أكان النتاج عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو فنياً. ونحن لا نضيف شيئاً جديدا على تعريف السابقين إلاّ اعتبارنا أن الثقافة هي شخصية الأمة المميزة لها والمشكِّلة قيمها وسلوكها، ويتفرع عن الثقافة البعد الأخلاقي للأمة بمعنى صيرورتها قانوناً لايجوز خرقه، وبذلك تدخل في المقدس. حتى الدين بمعناه الغيبي لم يتجاوز أخلاق الأمة وما صلح من ثقافتها، وفي القرآن " وكذلك أنزلناه حكماً عربياً"،." سورة الرعد /آية، إنه حكم عربي نابع من عقلية العرب وروحهم أولاً.
ونستنتج من هذه المقولات في تعريف الثقافة أن الثقافة هي فعل إنساني،يتراكم عبر مسيرة الأفراد والمجموعات في رحلة التاريخ الطويلة، وهكذا تكون الثقافة نشاطاً مكتسباً ومتراكماً، وأحياناً بعضه ينسخ البعض الآخر بحكم التطور الحياتي في المجالات المختلفة. إذن الثقافة ليست موجوداً غرائزياً في النفس البشرية. ومن هنا نعتقد أن ما يعنيه "بيتر فارب" بتعريفه للثقافة هو الربط بين الثقافة والقيم السائدة في مجتمع ما. وهي بهذا المفهوم قابلة للتبدل والتغيير والإضافة والحذف لأنها جزء من النشاط الفردي والجمعي على حد سواء.
من هو المثقف؟
يعرِّف الدكتور محمد عابد الجابري المثقف بقوله:" المثقف شخص يفكر، بصورة أو بأخرى، مباشرة أو لا مباشرة، انطلاقاً من تفكير مثقف سابق: يستوحيه، يسير على منواله،يكرره، يعارضه، يتجاوزه،..... ليس هناك مثقف يفكر من الصفر"
وحامل الثقافة، والمثقف تحديداً هو الذي يملك تصوراً فردياً واجتماعياً للذات والمجتمع معاً ، وهو يرتكز في تكوين ثقافته على الآخر الذي سبقه أو عاصره، وقد يضيف لسابقه ، وقد يتجاوزه، هذا صحيح، وقد يلغيه عبر تطور نظرته للكون والمجتمع والمعتـَقد، ويرتكز في تكوين ثقافته أيضاً على احتكاكه بالأشياء. وحين تتحول ثقافته إلى سلوك فردي منخرط بالحالة الجمعية تكون ثقافته قد أصبحت جزءاً من إنجاز المجموع باتجاه المستقبل تطويراً وتغييراً. وقد تتجاوز ثقافة المثقف مجتمعه، ولكنها يجب أن تبقى وثيقة الصلة بمجتمعه بمعنى التطوير من خلال التواصل لأن الانقطاع يحدث مساحة ميتة ينعدم فيها الخطاب والتفاهم، وقد لا تؤتي الثقافة أُكـُلـَها إلا بعد حين كثقافة ابن رشد مثلاً، والتي أصبحت فيما بعد من أهم مرتكزات نهضة الفكر الأوروبي، وقد يكون المثقف شهيد ثقافته، وفي رأيي تكون أعلى درجات الاستشهاد حين تنغرس في الوجدان الجمعي ونابعة من قناعات ساطعة في وجدان المثقف، وقد يتحول المثقف المبدع منارة مستمرة العطاء، ولها وحدها ينتمي الخلود الإنساني بمعناه الأرقىحين نرى أسماء شهداء الفكر خالدة تعيش فينا كالحياة نفسها. وكم هو جميل في هذا المضمار قول الشاعر العربي المبدع بدوي الجبل :
الدهر ملك العبقرية وحدهــا لاملــــكُ جــــــبـّارٍ ولا سفـّاحِ
ذَرَتِ السنونَ الفاتحين كأنهمْ رملٌ تعاورَهُ مهبُّ ريـــــــــــاحِ
والكون في أسراره وكنـــــوزه للفكـر لا لوغىً، ولا لسلاحِ
ويرى المفكر الإيطالي "غرامشي:أن كل إنسان مثقف، وإن لم تكن الثقافة مهنة له. ذلك أن لكل إنسان رؤية معيـّنة للعالم وخطـّاً للسلوك الاجتماعي والأخلاقي ومستوى معيـّناً للمعرفة والإنتاج الفكري. إذن لكل فرد اجتماعي عاقل مختزن معرفي تتفاوت نِسَبـُه بتفاوت الاكتساب المعرفي من فرد لفرد. ويقول غرامشي أيضاً : " إن المثقفين ، بماهم مثقفون، لا يشكلون طبقة مستقلة، بل إن كل مجموعة اجتماعية لها جماعة من المثقفين خاصة بها، أو هي تعمل على خلقها"،وبهذا يتحدد دور المثقف في مجتمعه كما يستنتج الدكتور محمد عابد الجابري:" من خلال المجموعة الاجتماعية التي يخدمها من خلال الدور الذي يقوم به في السياسة والصيرورة التاريخية ، فيكون مثقفاً (تقليدياً)عندما يرتبط بالمجموعات القديمة والطبقات الآيلة إلى الزوال، ويكون مثقفاً (جديداً)، ناقداً عندما يساهم في تعبئة المجموعة الاجتماعية الصاعدة وبلورة مطامحها وأهدافها" وهذا الرأي الذي يورده الدكتور الجابري هو رأي "غرامشي" الفيلسوف الماركسي الإيطالي ، ويحاول الدكتور الجابري أن يقترب أكثر ليعطي مفهوماً أدق للمثقف في خطابنا المعاصر. ويرى أن المفهوم المعاصر لما نعنيه بكلمة المثقف اليوم بدأ في فرنسا إثر قضية الضابط الفرنسي (ألفريد دريفوس) الذي هو من أصل يهودي حيث حُكِم عليه بالنفي إلى غويانا(بتهمة التجسس لصالح ألمانيا)، واستطاع أهله وأصدقاؤه أن يثبتوا زيف الادعاء بعد عامين ، ولجأوا للرأي العام الفرنسي، وبعدها نشر "إميل زولا" انتصاراً لبراءة هذا الضابط مقالاً بعنوان: " إني أتهم" ثم ساهم مع مجموعة أخرى أمثال أناتول فرانس، ومرسيل بروست، وسينيوبوس ، وليون بلوم، ولوسيان هير...في إصدار بيان وقّعوا عليه، ونشرته جريدة لورور الفرنسية يوم 14 كانون الثاني 1898 كما يذكر الدكتور الجابري ، وكان عنوان البيان "بيان المثقفين" . وبعد صراع مرير أعيدت محاكمة الضابط وفي النهاية أعلنت براءته، وأعيد إليه اعتباره. وبعدها سادت كلمة المثقفين في الكتابة والاستعمال. ومن هذه الحادثة بالذات، وفي تلك الآونة في المجتمع الفرنسي غدت كلمة المثقفين تعني أولئك "الذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان والمجتمع، ويقفون موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد والجماعات من ظلم وعسف من طرف السلطات، أياً كانت، سياسية أو دينية"[7] . لكن معنى المثقف اتسع فيما بعد ليشمل حاملي المعارف الإنسانية سواء أكانوا محتجين على سلطة أوغير محتجين، وأصبح مفهوم المثقف هو الامتياز المعرفي المتقدم لإنسان في مجال معرفي معيّن، وبخاصة بعد تشعُّب مجالات المعرفة الإنسانية . إلاّ أننا ملزمون في الوطن العربي اليوم للانخراط أكثر في تحديد مهمة المثقف ودوره، لأننا اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة لتحديد دور المثقف العربي، وماهي التبعات الملقاة على كاهله في مجتمع يكاد يكون سكونياً منذ قرون طويلة. ومن جهة ثانية لابد من تبيان الانحراف الذي يمارسه المثقفون السلطويون في حشو الجماهير بذلك الورم الخبيث من أجل الحصول على رضا السلطات وامتيازاتها. وسنحاول تبيان السمات الثقافية التي يجب أن تتوفر في المثقف العربي المعاصر للنهوض بالمجتمع العربي الراكد، والذي يعيش حالة تشبه حالة الموات. ويجب التأكيد على أن هذه السمات مشتركة بين بني البشر في ظروف نهضوية مشابهة لظروفنا الراهنة، ثم إن تطور مفهوم المثقف اليوم في المجتمعات الغربية لا يلغي هذه السمات ، بل يثبتها،وسنشير بعدها إلى الإشكاليات الكبرى التي مرّ بها المثقف العربي ولا زال يمر بها اليوم، والتي تجنف عن السمات التي نريد توفرها لتكون في النهاية سمات وطنية وقومية واجتماعية، إذ نحن في النهاية جزء من المجتمع الإنساني الذي تهدف جميع ثقافاته الصحيحة لإزالة كل ما يعيق مسيرة البشر إلى عالم يسوده السلام والحب خالٍ من التلوث الروحي والبيئي والاجتماعي الإنساني المتحول والموروث في آن.
الدور التاريخي للمثقف العربي سلباً وإيجاباً:
يجب الانتباه بشكل نقدي واعٍ لدور المثقف العربي تاريخياً عبر احتكاكه بالسلطة والمجتمع سلباً وإيجاباً، اقتحاماً وانسحاباً. وقتها نستطيع الاقتراب أكثر من مشكلة المثقف العربي اليوم ومسؤوليته عن علاقته بالسلطة والمجتمع.
لا نستطيع أن نطلق لفظة " مثقف، على الفرد العربي منذ القدم إلا بمدلولها العام الذي يقوم على الريادة الفكرية، والموقف المتمرد، أو على الحكمة المستنبطة من احتكاك هذا الإنسان بواقعه القاسي الخشن. وتلك هي شخصية المثقف في كل العصور على كل حال.
كان زهير بن أبي سلمى رمزاً للثقافة الحكيمة التي اكتسبها من تبصره بما يحدث حوله من أحداث، لقد عاصر حرب داحس والغبراء، ورأى الآثار المدمرة التي تتركها الحرب في المجتمعات القبلية المتحاربة " عبس وذبيان"، فاقتنع بقبح الحرب ودعا للسلام، وستبقى نظرته هذه صحيحة ما دامت هنا ك حرب وسلام بين البشر. وسنورد لاحقاً نماذج من فكره في هذا المضمار. غير أن دعوته للسلام جاءت عن إدراك واقعي لحقيقة أن صانعي السلام هم وحدهم الأقوياء. لايمكن أن تصنع السلام إذا كنت ضعيفاً:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
وحكمه المبثوثة في معلقته كانت عصارة تجربة مثقف عصره المختزنة في شخصيته المتوازنة.
الحطيئة كان مثقفاً يقتات بثقافته، وقد استعمل هذه الثقافة استعمالاً متدنياً، لقد سئل مرة : من أشعر العرب، فأخرج لسانه، وقال : "هذا إذا طمع". لم يكن مثقفاً واعداً رغم ظلم مجتمعه له.
قس بن ساعدة الإيادي وأكثم بن صيفي كانا رمزاً للمثقف الرؤيوي المبشر بيقظة الصحراء لاستقبال الصوت القادم ومعارضيْن لما كان سائداً من عقائد.
طرفة بن العبد كان مثقفاً متمرداً وحادّاً في تعبيره وسلوكه، إنه يذكرنا بالشاعر الفرنسي آرثر رامبو. لقد ثار على ما لم يعجبه من وعي القبيلة وعاداتها:
وما زال تشرابي الخمورَ ولذَّ تي وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلــَدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلـــــها وأُفرِدتُ إفـــــراد البـــــعير المعبّدِ
فذرني وخُلقي إنــني لك شاكرٌ ولــو حــلّ بيتي نائياً عند ضرغدِ
أما امرؤ القيس فكان مثقفاً كبيراً ورائدا، ولكن ثقافته تحوّلت من شرنقة الذات إلى الحالة العامة بعد مقتل أبيه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنـّا لاحقان بـــقيصرا
فقلت له لاتبكِ عيــــنكَ إنــــــما نحاول ملكاً أو نموتَ فنعذرا
لم تعد عنيزة تتهادى في هودج روحه وحدها، بل غدا حقه السليب ومقتل أبيه يملآن روحه بحزن "كموج البحر أرخى سدوله".
وشهدت الحياة الجاهية ثورة قادها الصعاليك المتمردون على مفاهيم القبيلة المتنافرة مع نمو الوعي الجديد في أرواحهم" الشنفرى، عروة بن الورد، تأبط شراً، السليك بن السلكة ، وغيرهم...".
أمية بن الصلت كان مثقفاً ضد السلطة الإسلامية،ووصفه الرسول نتيجة ذلك بأنه: " رجلٌ آمن لسانه وكفر قلبه".
حسان بن ثابتالأنصاري كان شاعر السلطة والذائد عن أفكارها:
نبيٌّ أتانا بـــعد يــــأسٍ وفتـــــــرةٍ من الرسْل والأوثان في الأرض تعبَدُ
فأضحى سراجاً مستنيراً وهاديـــاً يــلــوح كـــما لاح الصقيل المهــــنّدُ
أما النابغة الذبياني فكان شاعراً لاقضية له إلا الأكل بملاعق ذهبية على مائدة النعمان بن المنذر.
وفي العصر الأموي ظهرت الأحزاب المعارضة للسلطة، والمؤيدة للمعارضة، ولعل عبد الله بن قيس الرقيات هو ممثلٌ ملتزم داعٍ للثورة على بني أمية لمصلحة آل الزبير:
إنما مصعب شهابٌ من الله تجلتْ عن وجــــــهــه الظلـــماء
ملكه ملك عزة ليس فيــــــه جبروتٌ ولا به كبـريــــاء
كيف نومي على الفراش ولمـّا تشملِ الشامَ غارةٌ شعواء
أنا عنكم بني أميــــــــّةَ مزورٌّ وأنتمْ في نفسيَ الأعــــداءُ
كما ظهر الكميت بن زيد في "هاشمياته" مدافعاً عن حق عليٍّ وأبنائه في الخلافة:
يقولون لم يورِث، ولولا تراثه لقد شركتْ فيه بكيلٌ وأرحبُ
فإن هي لم تصلحْ لقومٍ سواهُمُ فإن ذوي القربى أحقُّ وأقربُ
وظهر الطرماح بن حكيم الطائي مدافعاً عن الخوارج، ومنتمياً لهم، وهم أشد الأحزاب تمسكاً بالثورة ضد الجميع، وهم يمثلون الحزب الديموقراطي الثوري في الإسلام الذي لايرى أن تكون الخلافة حصراً في قريش، يقول واصفاً شوق الخوارج للشهادة:
إذا فارقوا دنياهمُ فارقو الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحفِ
ومن مثقفي الخوارج أبو حمزة الخارجي الذي يصف تقوى الخوارج بقوله: "إذا مرَّ أحدهم بآيةٍ فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مرّ بآيةٍ فيها ذكر النار شهق شهقةً كأن زفير جهنم في أذنيه"
وإلى جانب هذه الشخصيات التي تمثل اتجاهات سياسية عرفتها فترة الحكم الأموي بسبب المتغيرات السياسية والفتوحات ظهر شعراء لاهمَّ لهم إلا التكسب، مثل جرير والأخطل والفرزدق. لقد كان الأخطل شاعر الأمويين، ولكنه لم يكن خارج عصره في تكسبه بشعره، ولذا كان يبالغ في مدائحه للأمويين، بسبب الفراغ النفسي الذي يصدر عنه، ولم يكن هو استثناء في اللجوء إلى المبالغة، بل هي سمة الشعر الذي يؤخذ ثمنه مالاً. معظم الشعر العربي في مديح السلطات الحاكمة كان يقتقر للهب الداخلي الذي هو جوهر الشعر في كل العصور.
لقد أدى ظهور الدولة الكبرى المركزية بأقطارها الواسعة، والتي تضم شعوباً غير عربية إلى نشوء تيارات ثقافية وفكرية كبرى ستتوضح معالمها في فترة الخلافة العباسية.
ظهر عبد الله بن المقفع المثقف الكبير الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه العقلانية متهماً بالزندقة ــ تلك التهمة الجاهزة للخلاص من الخصوم الثقافيين ــ ووقف مثقفون آخرون مع السلطة وكتبوا نتاجهم الفكري تحت إشراف السلطة الحاكمة، وانصرف كثير من المثقفين لحياة اللهو والمجون، وانقطع البعض الآخر للعبادة والتأمل. ونتيجة لحركة الترجمة والتطور الفكري والاجتماعي وتثاقف العرب مع الآخرين ظهرت مدارس فكرية كالمعتزلة، والتي استطاعت بعقلانيتها أن تجعل الاعتزال مذهب الدولة الرسمي،والذي عارضه بقوة الإمام أحمد بن حنبل. ولعل الاعتزال كان بداية الفكر العلمي في الإسلام, وظهر إخوان الصفا والطبري والكندي والفارابي والخوارزمي وابن سينا وابن النفيس. وبدأ الفكر العربي الإسلامي ينحو منحى عالمياً، واستوعب كل ما وفد إليه من فكر، وانعكس الجدل على المدارس الفقهية كأبي حنيفة النعمان وغيره في الفتاوى والشرح والتفسير.
ومع انحسار السلطان العربي وهيمنة البويهيين والسلاجقة على معظم أنحاء الدولة العربية الإسلامية، انحسر دور العرب وانحسرت ثقافتهم وبخاصة بعد خروج العرب من الأندلس، ما عدا بعض الأسماء اللامعة كابن خلدون والمؤرخ ابن الأثير، ومن بعدها سادت الأمية وبدأ عصر الانحطاط، وخضع العرب لكوابيس الظلام التي هيمنت مع سواد الأمية.
واستمر هذا الوضع حتى القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدأت المواجهة مع الاستعمار تحفز المثقف العربي لمواجهته، وابتدأت ثقافة المقاومة تتوضح أكثر في وجدان المثقف العربي، وكان لثقافة المقاومة في هذه الفترة مهمتان، التحريض والتنوير، وعبرهما كانت مهمة المثقف العربي تجعله في الصف الأمامي لمواجهة الاستعمار تحريضاً وفعلاً، ومن ناحية أخرى بدأت ثقافة المقاومة تبحث عن أسباب تخلف العرب لاستنهاضهم وإعادة الروح العربية التي فارقت الجسد العربي منذ زمن طويل.
وكان من نتائج هذا الفكر المقاوم مع الدعوة إلى النهضة والتنوير بداية انسجام معقول بين السياسي والثقافي، ومن رموز هذه المرحلة رفاعة الطهطاوي ومحمد علي باشا.
وفي القرن العشرين نهضت ثقافة المقاومة وساهمت في طرد الاحتلال إلى جانب المقاومات الأخرى. وكانت الدولة الوطنية أهم إنجازات هذه المقاومة، وبدأت مسؤولية المثقف تتشعب كثيراً بعد مرحلة وجود الدولة الوطنية لتشمل قضايا متشعبة أخرى كالانتماء والهوية وقضية الوحدة العربية، والحرية ، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية والاختلاف مع سلطة الدولة الوطنية التي عجزت بعد الاستقلال عن بناء تجربة متقدمة.
وكانت فلسطين ولا تزال من أكبر عوامل استمرار ثقافة المقاومة التي لم تقتصر على الفلسطينيين وحدهم،بل شملت معظم المثقفين العرب، وظلت فلسطين عاملاً قوياً في تنمية الحس العربي بالانتماء لأمة واحدة، لقد كانت النكبة تحمل كل عناصر التحدي المقاوم والرافض للصهيونية واقتلاعها لشعب من أرضه. وعرفت فلسطين فكراً مقاوماً تمثل بمثقفين كبار أمثال ابراهيم طوقان، وأخته فدوى طوقان، وأبي سلمى، وغسان كنفاني، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وكمال ناصر، وأحمد دحبور وإدوارد سعيد وغيرهم... .
واليوم بدأت مأساة احتلال العراق تهزّ الوجدان العربي وتحثُّه على التمرد الحاد على الاحتلال وأدواته والأنظمة الصامتة والمتآمرة، وكل ما سبب وأدى إلى هذه الفاجعة المريرة. أمام المثقف العربي والمثقف العراقي تحديداً مسؤولية صعبة لاتقل عن فعل الشهادة اتجاه ما يحدث في هذا الوطن الذي تتداعى إليه الأمم كما تداعى الأكـَلَةُ إلى قصعتها.
ولابد من الإشارة أيضاً إلى مجموعة من ذوي الثقافة المنحازة للاحتلال تحت حجج واهية تسقط جميعها أمام صرخات أطفال العراق وضحاياه، ضحايا الجشع الأمريكي الصهيوني المدعوم بكل قوى الشر في هذا العالم الظالم. وهناك مجموعة من المثقفين التحقت بالسلطات المتخاذلة حيث أغرتها الأموال والمناصب وسهولة الانحدار إلى سفوح القضايا الشاهقة. وانحازت فئة أخرى من المثقفين لثقافة الغرب مستهجنة تراث أمتها لأهداف كثيرة ذكرناها في مكان آخر من هذا البحث.
وهكذا يبدو لنا بكل وضوح أن مسيرة المثقف العربي منذ فترة ما قبل الإسلام لم تكن مسيرة واحدة. بعض المثقفين وصل إلى فعل الشهادة دفاعاً عما يدعو إليه، وبعضهم دافع عن الطائرة الأمريكية التي قتلت أطفال العرق وقصفت أعظم حضارة عرفتها الإنسانية، والتي كانت في عصر من العصور حاضرة الثقافة الإنسانية وموزعتها على الدنيا، هذا الإنسان ذو الثقافة العرجاء يرى أن الصاروخ الأمريكي كسر بوابة السجن، ولم يكسر بوابة الوطن، هذا الفكر الأسود لا يبني مجتمعاً سليماً مهما كانت المبررات لهذا الاعتقاد المشبوه.



المصدر: منتديات يل - من قسم: نافذة حرة


lh id hgerhtm? ,lk i, hglert? hgerhtm K hglert hgerhtm?